ترجمة: أحمد شافعي -

يسهل كثيرا أن نلوم دونالد ترامب في كل خطأ يقع في العالم. فثمة غالبا مغالاة كبيرة في تقدير قدرة أي رئيس أمريكي على إحداث تغيير جذري أو السيطرة على سلوك قوى كبيرة أخرى. غير أن ترامب باتخاذه مكانة الملك العالمي غير المتوج والقاضي الجليل في شؤون الحرب والسلام إنما يديم أوهام هيمنة الولايات المتحدة وقدرتها المطلقة وحقها الإلهي. وانتشاء بهذه الضلالات النرجسية المتضخمة، تعهد ترامب قبل توليه السلطة بأن ينهي سريعا صراعي أوكرانيا وغزة. ولعله، بصلفه وغطرسته، كان يصدق فعلا أنه قادر على ذلك.

وبعد ثمانية أشهر، يحدث العكس بالضبط. إذ تتوسع وتتصاعد كلتا الأزمتين. لقد انفقأت الفقاعة، وافتضح الوهم، وتبين أن الإمبراطور عارٍ، ولا أحد ينكر مسؤولية ترامب الكبرى في ذلك، بمناوبته بين التودد والتشجيع في علاقته بالآثمين الاثنين في هاتين المأساتين المتطابقتين. ففي الأسبوع الماضي توغلت طائرات مسيرة روسية مرات عدة في بولندا العضوة في الناتو ـ وهي توغلات يصيب المسؤولون البولنديون إذ يصفونها بالعمدية ـ ويمثل ذلك مخاطرة بتحويل حرب أوكرانيا إلى حريق يمتد في أوروبا كلها. وبالمثل، تأججت توترات إقليمية بسبب الضربة الجوية الإسرائيلية الطائشة غير الشرعية لقطر، وهي الضربة التي نسفت عملية سلام غزة ماديا واستعاريا.

والعامل المشترك في كلا التطورين يتمثل في ضعف الولايات المتحدة، أي ضعف دونالد ترامب بعبارة أخرى. وهل بذل أي رئيس أمريكي آخر من الجهد مثل ما بذل ترامب ليجعل نفسه شبيها بالقائد القوي في حين أنه يخفق إخفاقا مؤسيا في أن يتصرف تصرف القائد القوي عندما يدعو الداعي إلى ذلك؟ فالكثير مما يفعله ترامب سواء بإصدار الأوامر التنفيذية غير القانونية، أو إقالة كبار المسؤولين، أو التنمر بالجيران والمهاجرين البائسين، أو إصدار أوامر للقوات بالنزول إلى شوارع المدن الأمريكية، أو دعم زعيم انقلابي زميل له في البرازيل، أو إثارة الشجارات مع القضاة والإعلام المستقل، لا يتعلق إلا بتعزيز صورة ترامب بوصفه رجلا قويا.

في حين أن الواقع شديد الاختلاف. فعند مواجهة ترامب لخصوم أقوياء ثابتين، وليس أهدافا سهلة، فإنه يتراجع. ويجبن. وقد ثبت هذا منذ أمد بعيد على يدي فلاديمير بوتين رئيس روسيا وبنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل. إذ يتلاعب به الاثنان. فيطريانه، ويكذبان بشأن رغبتهما في السلام، ويعرضان عليه انتصارات يسيرة، ثم يرجعان كل إلى وطنه، مثلما حدث مع بوتين الشهر الماضي في قمة عناق ألاسكا، ليواصل القيام بأي شيء يريده، فلا يتعلق ذلك في العادة إلا بعنف أشد. وعندما يتصل ترامب الغاضب، مثلما حدث بعد غارة نتنياهو على قطر، للاعتراض والتذمر المؤسي بأنه «غير سعيد» مؤكدا بذلك ضعفه الأكيد، فإنه لا يلقى غير التجاهل.

هكذا أصبح ترامب أبعد ما يكون عن إنهاء هاتين الحربين، بل لقد أصبح عقبة كبيرة في طريق السلام. إذ تؤدي تدخلاته غير المدروسة، واستعراضاته، وانحيازه، إلى تفاقم الأمور، وإطالة أمد الصراعين. وافتقاره إلى مهارات القيادةـ فضلا عن انعدام النزاهة والحس السليم- يصيب الأوروبيين بالذهول، فقد اعتادوا على التعامل مع رؤساء أكثر عقلانية وأكفأ منه نسبيا. ويأتي عداء ترامب للاتحاد الأوروبي والناتو وحروبه الجمركية وكيده للديمقراطية ليزيد من تقويض التماسك والثقة الغربيين وليعزز أنظمة الحكم الاستبدادية.

ويراقب بوتين كل هذا من عرينه في الكرملين، ويتصرف بناء على هذا. فقد كان توغل المسيرات في بولندا ـ وهو ليس الأول لكنه الأضخم بلا شك حتى الآن ـ اختبارا محسوبا لردود فعل الناتو ووحدته. ولسوف يشعر بوتين بالرضا عن نقاط الضعف الدفاعية التي فضحها وعن رد الفعل السياسي غير المكافئ. فلم يقل ترامب حتى الآن غير القليل، ولم يفعل شيئا. وصمته هذا له معناه.

فهو لن يعترف بأن خنوعه المتملق لبوتين قد أتى بثمار عكسية رهيبة. ولا بأنه ـ على الرغم من كل الأسلحة العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية التي يملكها بين يديه ـ سوف يجد القوة والشجاعة ليتخذ موقفا. ومن ثم فبوتين مطلق اليد مرة أخرى. وفي المرة القادمة قد يكون الأمر أسوأ. فماذا لو أن روسيا على سبيل المثال هددت فنلندا تهديدا مباشرا؟ أو ألمانيا؟ ما الذي سوف يفعله ترامب حينئذ؟

أغلب الظن، بناء على الأدلة المتوافرة حتى اليوم، أنه لن يفعل الكثير. لقد تعرض الرئيس السابق جو بايدن لانتقادات في محلها بسبب حذره في ما يتعلق بأوكرانيا. أما ترامب فلا يكاد يشارك في اللعب. ولا بد أن تقوم المملكة المتحدة ودول الناتو الأوروبية بالتوقف عن اتباع واشنطن، ولا بد أن تشمر عن سواعدها وتعمد أخيرا إلى وضع خط لموسكو. ومن المسارات التي كثيرا ما دعونا إليها هنا، خلق مناطق محمية ممنوعة على الطائرات في المناطق المحتلة من أوكرانيا، وتوسيع الدعم العسكري، وإيقاف واردات الطاقة الروسية، ومصادرة أموال الكرملين المجمدة، وعزل البنوك الروسية الصينية التي تنتهك العقوبات، وتخفيض العلاقات الدبلوماسية أو قطعها مع نظام بوتين. وإذا لزم الأمر، فلا بد أن تتأهب الجيوش الأوروبية لرد الضرب. فانتظار ترامب كالانتظار العقيم لجودو، لكنه يخلو من النكات.

يواجه القادة العرب المجتمعون ضغطا مماثلا للانفكاك عن الولايات المتحدة بعد أن اكتفى ترامب المهمش بالجلوس بينما قام نتنياهو بإضافة قطر ـ وهي حليف للولايات المتحدة ـ إلى قائمة البلاد التي هاجمتها إسرائيل بطائرات وقنابل أمريكية منذ السابع من أكتوبر 2023. فما ثمن خطة ترامب الكبرى لإعادة صياغة الشرق الأوسط الآن؟ لقد باتت السياسة الأمريكية رهينة لدى عدمية نتنياهو المتطرفة. [فالثمن هو] منع إمداد الولايات المتحدة لإسرائيل بالأسلحة، وتجميد المساعدات المالية الثنائية، وفرض عقوبات، ودعم مقاضاة القادة الإسرائيليين بجرائم الحرب، والاعتراف بدولة فلسطين المستقلة. وأي رئيس أمريكي طبيعي قد يفعل كل هذا أو بعضه. أما ترامب فغير طبيعي. وشاذ. ومأزوم.

لقد باتت الإخفاقات التاريخية للقيادة الدولية شائعة في عالم القرن الحادي والعشرين شيوعا كبيرا. كان من بينها قرار 2003 الأمريكي البريطاني بغزو العراق. وكان منها الإخفاق في التعامل بفعالية مع أزمة المناخ الملحة. وها نحن الآن بصدد كارثتين كبريين أشد وأنكى تشرفان علينا معا. فلو أن الأمم المتحدة ـ التي تعقد اجتماعها السنوي الشهر الحالي، ولو أن أوروبا، ولو أن الغرب، سمحوا جميعا لروسيا وإسرائيل بالمضي في عدوانهما الدموي غير القانوني وغير الأخلاقي ودائم التوسع، فقد لا يتسنى إيقاف الانحدار المتزايد إلى الفوضى العالمية.

وما لم تتحد البلاد الديمقراطية لضمان إيقاف سريع لهاتين الحربين، ولتوظيف كل السبل اللازمة بما فيها القوة العسكرية، فإن كوارث أكبر سوف تقع لا محالة. لكن لا تعتمدوا على أن تتولى الولايات المتحدة الريادة. ولا تعتمدوا على ترامب الضعيف. لأنه جزء من المشكلة.

سيمون تيسدال من كتاب أعمدة الرأي في صحيفة ذي جارديان