غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:

في أحد مخيمات مدينة غزة، جلست والدة الطفل أحمد عاشور تتحدث بمرارة عن تفاصيل إصابة ابنها التي غيرت مجرى حياته بالكامل. تقول: «خرج ابني ليشتري بعض المشروبات الغازية مع أخيه وابن خالته، وفي الطريق استهدفتهم طائرات الاحتلال مع مجموعة من المواطنين، فأصيبوا جميعًا إصابات بالغة، ونقلوا على عجل إلى مستشفى الشفاء».
أحمد.. حكاية بتر وسط المجاعة
لم تكن والدة أحمد تعلم أن ذلك اليوم، السابع من أبريل 2025، سيبقى محفورًا في ذاكرتها إلى الأبد. ففي ظل المجاعة التي اجتاحت القطاع مع حلول ذلك الشهر، كان صعبًا أن توفر لابنها الجريح ما يحتاجه من تغذية وعلاج.
وتضيف لـ«عُمان»: «أصيب أحمد في قدمه اليسرى إصابة خطيرة، وضع الأطباء شرائح بلاتين داخلية، لكن حالته تدهورت فاضطروا لبتر القدم بعد أربعة أيام فقط».
تروي الأم معاناتها اليومية مع ابنها: «لقد تعبت كثيرًا معه، كنت أحمله على كتفي إلى دورة مياه المخيم في غياب أي وسائل مساعدة للحركة. لا عكازات ولا كراسٍ متحركة. حتى في الأكل والشرب كنت أواجه مشقة كبيرة». ومع قسوة الحرب والحصار، لم تكن الأدوية متوفرة، فازدادت محنة أحمد. «ابني أصيب في عز المجاعة، لم أستطع أن أوفر له كوب حليب واحد. تخيل أن جرحًا بهذا العمق يحتاج إلى غذاء وعلاج، ونحن لا نملك شيئًا».
وبصوت يختلط بين الحزن والأمل، توضح الأم: «بحثت عن طرف صناعي لابني في كل المستشفيات ومراكز التأهيل داخل القطاع، لكنني لم أجد». فيما تتمنى أن يسافر أحمد إلى الخارج؛ ليحصل على طرف صناعي يساعده على المشي مثل باقي أطفال العالم». وتختم: «أحمد تقبل إصابته بصبر عجيب. قلت له: هذا نصيبك، وربك سيعوضك في الجنة، وإن شاء الله سيعوضك خيرًا في الدنيا أيضًا».
جراح ممتدة
قصة أحمد تعكس حجم المأساة التي يعيشها الكثيرون من أطفال غزة. فمنذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية قبل 23 شهرًا، لم يعد أي طفل في القطاع بمنأى عن الخطر، إذ امتدت يد القصف والحرمان لتسرق أطرافهم وقدرتهم على الحركة مع أحلامهم. في كل مخيم ومستشفى، يمكن أن تسمع صرخات الأطفال المبتورين والمصابين بإعاقات حركية، وترى عيونهم الصغيرة التي اعتادت البكاء أكثر مما اعتادت الضحك.
هؤلاء الأطفال لا يواجهون فقط معركة الألم الجسدي، بل يواجهون أيضًا معركة أخرى أشد قسوة: الفقر والجوع وانعدام الرعاية الطبية. في ظل حصار خانق يمنع وصول الأطراف الصناعية وأدوات التأهيل، يجد الأهالي أنفسهم عاجزين أمام أبنائهم الذين لا يملكون سوى الصبر والدعاء.
وما يزيد من مأساة هؤلاء الصغار أن معاناتهم لا تنتهي عند حدود الإصابة. فحتى بعد تجاوز صدمة البتر أو الإصابة الحركية، يحتاج الطفل إلى علاج طبيعي طويل الأمد وجلسات تأهيل متكررة، وهو أمر يكاد يكون مستحيلًا في قطاع يخلو من المراكز المتخصصة والأدوات الأساسية.
محمد.. شلل دماغي بعد القصف
لم يكن الطفل محمد عبد الله (9 سنوات) يعاني من أي مشكلة صحية قبل أن تنهال قذائف الاحتلال على منزله في حي الزيتون شرق غزة في ديسمبر 2023. تقول والدته: «كان محمد يلهو مع أشقائه عندما سقط صاروخ على بيتنا، فتهدم السقف فوق رؤوسنا، وأصيب محمد بشظايا في رأسه تسببت له بنزيف دماغي حاد».
بعد أيام من المعاناة في العناية المركزة، خرج محمد من المستشفى بإعاقة حركية دائمة، إذ أصيب بشلل دماغي جعله غير قادر على الحركة أو النطق بشكل طبيعي.
تضيف والدته بحرقة خلال حديثها لـ«عُمان»: «تحول ابني من طفل مرح يركض في البيت إلى جسد نحيل عاجز على السرير. لا أستطيع وصف وجعي وأنا أراه عاجزًا عن الحركة».
رحلة محمد مع الألم لم تتوقف عند ذلك الحد. فإلى جانب معاناته الصحية، تواجه عائلته صعوبة كبيرة في توفير العلاج الطبيعي الذي يحتاجه بشكل دوري. توضح الأم: «طلب الأطباء جلسات تأهيل طويلة لابني، لكننا لم نستطع الاستمرار بسبب انعدام المراكز والأدوات اللازمة».
محمد اليوم يعيش على أمل السفر للعلاج في الخارج، لكن الحصار المستمر وإغلاق المعابر جعلا هذا الأمل بعيد المنال. ومع كل يوم يمر، تزداد حالته سوءًا، بينما تنظر والدته بحسرة إلى طفولته التي ضاعت تحت الركام. وتؤكد: «أمنيتي الوحيدة أن يعود ابني قادرًا على الحركة والكلام، لكن الاحتلال سرق حتى هذه الأمنية البسيطة».
أطفال الإعاقة الحركية
المهندس زاهر الوحيدي، مدير مركز المعلومات الصحية في وزارة الصحة بغزة، يؤكد أن حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ 23 شهرًا خلفت أرقامًا مروعة تعكس حجم الكارثة الإنسانية. يقول: «لقد أسفرت هذه الحرب عن استشهاد أكثر من 64 ألفًا و500 مواطن فلسطيني، وأكثر من 157 ألف إصابة، وكانت نسبة الأطفال منهم 30.4%، أي ما يقارب 19 ألف شهيد، بينهم أكثر من ألف طفل أعمارهم تقل عن عام».
ويضيف الوحيدي، في تصريح لجريدة «عُمان»: «من بين هؤلاء الشهداء، هناك 370 طفلًا ولدوا في هذه الحرب ولم يعرفوا الحياة إلا لحظات قبل أن يرحلوا». ويتابع: «أما الإصابات البالغة التي خلّفها القصف، والتي لا تقتصر على جروح سطحية بل تشمل حالات بتر وإعاقات حركية وشلل دماغي، فقد تجاوز عددها 17 ألف إصابة، وجميعها تحتاج إلى علاج وتأهيل طويل الأمد».
ويشير إلى أن «نسبة الإعاقات وحالات البتر والشلل الدماغي الناتجة عن القصف وصلت إلى أكثر من 4800 حالة، بينهم ما لا يقل عن ألف طفل تعرضوا لبتر واحد أو أكثر». كما أوضح أن نسبة النساء ضمن هذه الحالات بلغت 8%..
ويوضح الوحيدي: «من بين الـ17 ألف إصابة، هناك ما يقارب 4400 طفل بحاجة إلى علاج طبيعي وجلسات تأهيل طويلة المدى. ولكن في ظل غياب الأدوات والأطراف الصناعية وأجهزة المساعدة، يصبح الأمر شبه مستحيل. لم يبق في الشمال سوى مركز تأهيل واحد هو مستشفى الوفاء بسعة 20 سريرًا، بالإضافة إلى مستشفى الأمل في الجنوب بإمكانيات محدودة».
ويختم الوحيدي قائلاً: «هناك أكثر من 4500 طفل بحاجة إلى السفر للعلاج في الخارج، ضمن إجمالي 17 ألف مريض وجريح ينتظرون فرصة للخروج. لكن مع استمرار إغلاق المعابر ومنعهم من السفر، تتفاقم حالاتهم يومًا بعد يوم. حاجتهم للأطراف الصناعية وأدوات التأهيل والعلاج والدعم النفسي أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى».