السبت، 23 ديسمبر 1989، سان دييغو، كاليفورنيا:

الرجل ذو الوجه البليد الذي جسده ينتمي لحلبات المصارعة الأمريكيَّة الجالس خلف الطاولة مادَّاً رجليه تحتها إلى المقعد المقابل يقلِّب بلا اهتمام صفحات كتاب مصوَّر، وينظر إليك بتفحص بين الفينة والأخرى. وحين يصطدم به بصرك يكون كمن انكشف أمره، فيخفض بصره ويعود إلى تقليب الكتاب بلامبالاة مثل من يقول: حسن جداً، إني لا أقرأ كما ترى!

قبل وقت قصير من الذهاب إلى المكتبة العامة حادثني ماريو كالاس في الهاتف، وأعرب عن إفلاس السِّياسة الأمريكيَّة بغزو بنما. تحدثنا وتساءل بخصوص انطباعي عن كتاب ميخائيل غورباتشوف «البيرسترويكا: تفكير جديد لبلادنا والعالم» الذي قرأته مؤخراً. بدورك لم تجد غضاضة في التعبير عن وجهة نظرك بانكشاف القناع الأمريكي، وتمزقه غير الجديد وغير الأخير. ربما لذلك ظهر ذلك الرجل ذو الجسد المصارع في المكتبة العامة. في حوالي الرَّابعة صباحاً حين كنت واقفاً في غرفة المجلس ببيت الأسرة في مجز الصُّغرى لم أنتبه إلى الأب وهو يزحف بمحاذاة الجدار من الخارج (كيف لك أن تنتبه إلى ذلك)؟ كان الأب يقف خلف النافذة الخشبيَّة ذات القضبان الحديديَّة الصدئة المقابلة للبحر، ويُخرج من جيب دشداشته مسدَّساً أسود، ويمدُّ يده بين القضبان. وحين اصطك جسدي بالجدار في مكابرة الرُّعب دار بينكما حديث قصير غاضب لم تعد تتذكره. ضغط الأب على الزناد وانطلقت الرَّصاصة إلى الجزء الأيسر من صدري. تحسَّستُ الدم اللَّزج السَّاخن بأصابع يدي اليمنى للتَّأكد من أن الأمر ليس كابوساً، وحين وثقتَ إلى أنه ليس كذلك، صرختُ: قتلتَني!

ذهبتَ إلى الحمَّام، في شقَّتي في سان دييغو، وكان الجانب الأيسر من صدري يؤلمني، وحين عدت إلى السَّرير كنت أدرك مسبقاً أن النوم لن يعود. لا ينبغي أن يعود النَّوم في أية حال.

الإثنين، 25 ديسمبر 1989، سان دييغو، كاليفورنيا:

(1)

لا إخوة لي ولا أخوات غير الذين ماتوا.

(2)

أنت مولع بالأصوات، ولم تعد الكلمات التي تصفها تثيرك كثيراً: «هسهسهسهسهسسس» تثيرك أكثر من «هسهسة». لكن هل الكتابة محاولة شقيَّة لمحو الكلمات؟ للسينما طاقة خاصة في ذلك الشأن، وبازوليني كان على حق حين رأى انه يوجد «فلتر» في الأدب، بينما لا يوجد ذلك المَرشِح في السينما حين تقف الكاميرا أمام الشجرة لتقول الشجرة نفسها من غير وسيط. ومع ذلك فإنه لا تخلو كل ضروب التَّمثيل (representation) من شكل من صنوف الانتهاك (transgression).

(3)

لستُ نادماً على أي شيء مما حدث في البارحة.

(4)

لم أقرأ شيئاً يذكر في هذه الأيام، ولا أستطيع أن ألومك. تريد قليلاً من التركيز، من صفاء الذهن. تريد قليلاً من رأسك بصداع أقل، ودبيب أقل.

(5)

أحداث الليل المريبة نسيتها تماماً. هذا أفضل فالذاكرة (ليست) بالونة.

(6)

أكتب هذه السطور وأمامي «ديفِد» مايكل أنجلو في لوحة على الجدار. يضحكني ما تصوَّره عصر النَّهضة عن مجد الإنسان من خلال جسده. ومع ذلك فأنت تتمنى لو كان جسدك أقوى. وأنت تعرف أن الجسد هو مكان إقامتك المؤقت فقط، في أية حال.

ليس في الكتابة عزاء.

(7)

وراء قرارك بالتَّحاور اليومي مع هذا الدفتر كانت تكمن رغبة في أن توضح لنفسك بعض الأشياء. لكنك، وقد قرأتَ بعض ما كتبتَ، رأيتَ أنك إنما زدت الأمور غموضاً وتعقيداً لنفسك.

أنت بعيد وصوتي لا يصلك.

(8)

آرثر رامبو، أيها المسكين!: تشرداتك لأجل الشِّعر تتواضع أمام تشرُّدات أحدهم؛ فقد صرَّح هذا مؤخراً بأنه أصبح يخشى «من الانقراض في محطات المترو في باريس»! (هكذا والله العظيم، بالحرف الواحد).

على الرغم من هدير الأكذوبة ينبغي منك ألا تكرِّس هذا الدَّفتر للتَّعبير عن هكذا امتعاضات؛ إذ التاريخ كفيل بمثل تلك الادعاءات خاصة حين يتعلق الأمر بالشِّعر؛ فالشِّعر له حساسية خاصة في التنكيل بمن يحاول أن يكذب عليه، حيث الكشف هو خاصيَّة الشِّعر وخصوصيَّته بامتياز.

يكفي أن الأمر لم يعد ينطلي عليك أنت الذي كنت تُخصِّص جزءاً من مرتَّبك الزَّهيد لمتشرد مترو باريس، لا لآرثر رامبو!

(9)

اليوم تتبختر الكرنفالات في غبائها القديم: يحتفل العالم بأعياد الميلاد (الكرِسمَس). أما أنت فقد احتفلت بطريقتك في شقَّتك مع لويس بونويل في «سحر البورجوازيَّة الخفي».

ابن مريم شاهد الفيلم معك، أيضاً.

(10)

الثالثة صباحاً، وظهرك يطعنك بخناجر من نار. حين نهضتَ من السَّرير همستُ لكَ بأن هذا هو قدرك حتى تموت، وأن عليك أن تموت كي تنام بسهولة وعمق. لكن لديك مشروعات كتابة وقراءة، وأظن أنني أتوجَّس فيك مشاريع سينمائية أيضاً. تدرَّع بأحلامك على قلَّتها وهشاشتها.

ما دمت لا ترغب في المزيد من الأقراص عُد إلى السرير. استلقِ على نارك، وتنفَّس بعمق: مرة، مرتين، ثلاثاً، خمسين، مائتين، ألفاً ومائتين، و..، ولا تنكث بعهدك لهذا الدفتر.

السيجارة التي تطفئها الآن بيدك اليسرى هي الأخيرة لهذه الليلة. عليك أن تعدني بذلك.

...؟، ...؟، 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:

ينبغي للمقامِر، إذاً، صمت طويل، وعزوف. عليه ألا ينتظر أحداً، ألا ينتظر شيئاً. عليه فقط أن ينتظر، وأن يطمئن إلى مغامرته؛ أي أن يطمئن إلى خسارته.

الأربعاء، 24 يناير 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:

حسب إحدى قنوات التلفزيون المحليَّة، أُفرَج اليوم عن أحدهم بعد قضاء سبع سنوات في السِّجن. لكنه سيوضع تحت المراقبة الدَّائمة من طريق إلزامه بحمل جهاز إلكتروني في يده، وذلك الجهاز يرسل ذبذبات تدلُّ مراقبيه من رجال إنفاذ القانون على مكان وجوده. قضى ذلك الرجل تلك العقوبة، وسيوضع اعتباراً من اليوم تحت المراقبة الإلكترونية، لأنه صبَّ نفطاً على وجه ولده ثم أشعل النار فيه.

وذلك الولد، الذي يبلغ اليوم ثلاث عشرة سنة من العمر، يقول في مقابلة تلفزيونيَّة ضمن الخبر نفسه إنه لا يريد أن يرى أباه، وإنه إن جاء يطرق الباب فلن يفتح له، وإنه لا يحبه، ولا يريده. قبل ذلك، في قرية صغيرة، في مكان وزمان بعيدين عن سان دييغو وقنواتها التلفزيونية، قال أحدهم لولده ذي التاسعة أو العاشرة من العمر: «الليلة وإنته نايم، أنا بجي وبكب [سأسكب] كاز عليك وبحرقك».

لا يتذكر ذلك الولد أنه نعم بنوم طيب منذ ذلك الحين. أما وجه الولد الذي ظهر على إحدى قنوات التلفزيون المحليَّة في سان دييغو فقد كان مُشوَّهاً، مُشوَّهاً كثيراً.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني