أصحاب الجلالة والفخامة والسمو
أكتب إليكم اليوم بعيدا عن صفتي الصحفية التي اعتدت الكتابة بها، فهي صفة لم تعد تملك أي حصانة، مثلها مثل الأمة العربية تماما التي باتت مدنها وعواصمها مستباحة من العدو في السر والعلن.. وما كان يشاهده الأجداد في فلسطين التي رأوا فيها جرحا عميقا في كرامتهم، بات أحفادهم يرونه اليوم في كل مكان من المحيط إلى الخليج دون أي استثناء، واتسع جرح الكرامة إلى الحد الذي تعلمونه جميعا، ولا حاجة لتفصيله ففي ذلك ما فيه من الألم. أكتب بصفتي مواطنا عربيا لا يملك إلا أن يتمسك بعروبته، ويتشبث باللحظات المشرقة في تاريخ أمته.. لقد عشت حياتي، كما عاش الملايين غيري في هذه الأمة، على وقع أخبار الحروب والخيبات، وقرأتُ في تاريخها الكثير من النكسات، ووقفت منكسرا لأوقات طويلة أمام شاشات الأخبار أشاهد الأمة وهي تُدفع من الداخل قبل الخارج نحو هامش التاريخ، وتُفرغ من مواطن القوة أينما بقيت فيها، ويتمكن عدوها ويُمكن منها، فيما لا تستطيع القمم العربية ـ التي تعقدونها في لحظات الرخاء النادرة ولحظات الحروب والأخطار الكثيرة ـ تحويل البيانات الإنشائية الكثيرة إلى أفعال حقيقية على أرض الواقع حفظا لجوهر الأمة وتاريخها ومكانتها وكرامتها وعزتها ومجدها الذي ما زلنا مؤمنين به أبدا، ولا خيار أمامنا رغم كل ما عشناه وعاشه آباؤنا وأجدادنا إلا أن نبقى على ذلك الإيمان.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو
أكتب إليكم؛ لأن أمتكم قد وصلت إلى حالة يرثى لها من الخنوع والضعف والانكسار واليأس.. ودخلت أسوأ مراحل الانسداد الحضاري وما كان يوما تهديدا وجوديا أصبح اليوم واقعا ينفذ على الأرض بشكل ممنهج وواضح لا لبس فيه أبدا ومن لا يستطيع رؤيته فعليه أن يراجع يقينه قبل أي شيء آخر.
إن لحظة الانكسار واليأس التي وصلت لها الأمة هي الأخطر على الإطلاق، فهي متأسسة على وعي تام بحقيقة ما يقوم به العدوان الإسرائيلي بدعم غربي كامل بانتهاك كرامة الأمة دون استثناء وتجزئة أراضيها وإبادة إنسانها بشكل بشع ووحشي لا مثيل له؛ فيما تقف الأمة عاجزة عن أي مستوى من مستويات الفعل السياسي والحضاري. ويكرس العدو هذا المشهد كل يوم في فلسطين وفي لبنان وفي سوريا وفي تونس وأخيرا في قطر بشكل واضح وعلى مرأى من الجميع، فيما يحدث الكثير والكثير في عواصم أخرى بشكل صامت أو بموافقة ضمنية. إن تكريس هذا الانتهاك من شأنه أن يدفع الجماهير العربية المحبطة واليائسة من الداخل والخارج إلى مسارات خطيرة لا أحد يريدها أو يدعو إليها في هذا الوقت الصعب من أوقات الأمة.. وهي مسارات عملت الأحداث عبر التاريخ القريب على تمهيدها ولن تقود الأمة إلى خير أبدا.. ولكنّ الكثير من أوراق هذه المسارات ما زالت رهنا بأيديكم في هذا المنعطف التاريخي الخطير.
إن ما حدث في الدوحة الأسبوع الماضي ليس منفصلا لا في سياقه ولا في تفاصيله ولا في معناه السياسي والحضاري والتاريخي عما يحدث منذ سنوات في مدن وعواصم عربية كثيرة، بدءا من فلسطين والعراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن والسودان... إلخ، وكل ذلك ليس خافيا عنكم.. وهو بهذا المعنى اعتداء ليس منفصلا عن سياقه، وبحثه في قمتكم لا يجب أن يكون في معزل عن القضية الأساسية. فلا يجب أن يُبحث ما حدث في الدوحة باعتباره «حدثا أمنيا» أو «اعتداء على وفد تفاوضي» فهذا يفرغ الجريمة من معناها الأعمق. إن ما حدث هو اختبار صريح لمعنى سيادة الدول وكرامتها في أمتنا، ورسالة إسرائيلية/ أمريكية لمكانة العرب في معادلة القوة والشرعية الدولية في لحظة رأى فيها العدو أن الأمة وصلت إلى حالة من الضعف والهوان بحيث لا تستطيع فيه حتى أن تقرأ ما ينتظرها غدا؛ ولذلك هو ينفذ أجندته المستمدة من أوهام التاريخ وأحقاده.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو
لقد تعب المواطن العربي من الامتحانات التي خاضتها الأمة العربية، والتي كانت نتائجها في الغالب مخيبة للآمال، ولم يعد أمامنا إلا بعض أمجاد التاريخ الغابر، وبعض تجارب الدول في سياقها الفردي لنرمم ببعض ذلك انكسارنا ونبني توازننا النفسي.. لكن المواطن العربي لا يرمم كرامته ويبني توازنه بالتاريخ والذكريات فقط! فهو في حاجة ماسة إلى أن يرى تحول اللحظات المفصلية في حياته إلى سياسات تستطيع أن ترمم داخله وتبدل يأسه برجاء وأمل. فلم يكن على مدى العقود الطويلة الماضية ثمة توازن بين بيانات القمم العربية وأدوات تنفيذها، إلى الحد الذي توسعت فيه الفجوة بين القول والفعل وبين الجماهير والحكومات حتى صار معنى القمم في الذهنية العربية لا يعدو إلا مناسبة لأخذ الصور؛ فيما ضاعت الأوطان العربية وانتهكت كرامة العربي في كل مكان.. حتى أننا نرى أطفال غزة يموتون إلى جوارنا من الجوع والعطش فلا نستطيع أن نمد لهم أيدينا ولو برغيف خبز يابس!
زعماء الأمة العربية
يعيد الهجوم السافر على الدوحة فتح الكثير من الأسئلة حول التحالفات التي نسجتها الدول العربية طوال العقود الماضية وأنفقت عليها مئات المليارات إذا أمكن بهذه البساطة استباحة عاصمة عربية كانت تقوم بدور الوسيط لوقف إطلاق النار في قطاع غزة في وقت يطالب فيه العالم بأسره إسرائيل بهذا الوقف. إن ما أرادت إسرائيل قوله للعرب جميعا، هو أنها قادرة على انتهاك سيادتهم في الوقت الذي تريد حتى لو كانوا يقومون بدور الوسيط والبحث عن السلام، وفي هذا ما فيه من نظرة دونية لهم. وهي نظرة لا تعني قطر وحدها ولكن تعني الأمة جميعها، وتكاد إسرائيل تعرف سلفا أن الأمة، في وضعها الحالي، لا تملك إلا الاستنكار والتنديد.
ولهذا، فإن قمتكم في الدوحة، رغم عدم تفاؤل الجماهير العربية من نتائجها، مطالبة بنقل مركز الثقل من الخطاب اللغوي إلى الفعل الحقيقي، وتحديد ثمن الاعتداء على كرامة الأمة. والثمن تصنعه منظومة من الأدوات السياسية والقانونية والاقتصادية والإعلامية تعمل معا وتُدار بنفس طويل ولكن بإرادة واضحة لا لبس فيها ولا تخاذل. ولا شك أنكم تعرفون، أصحاب الجلالة والفخامة والسمو، كل هذه الأدوات وآليات تفعليها على كل المستويات.
وإذا كانت قمة الخرطوم قد خرجت بثلاث لاءات في عام 1967 فإن قمتكم أمامها الكثير من اللاءات التي يمكن تحويلها مباشرة إلى فعل حقيقي وأول تلك اللاءات التي يمكن أن تشعر الجماهير العربية ببعض كرامتها المستباحة هي «لا للتطبيع» ولا لجميع مساراته، و«لا لبقاء سفراء العدو في العواصم العربية» و«لا للتخاذل العربي»، و«لا للتناحر العربي».. هناك مئات اللاءات التي تبدأ من الداخل العربي قبل أن تتصل بالعدو ومؤامراته.
ثم لا معنى لأي قرار عربي حتى لو وصل إلى حد طرد السفراء الإسرائيليين من العواصم العربية دون أن تستطيع «الأمة» أولا فتح المعابر ووقف تجويع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.. فلم يعش العرب لحظة شعروا فيها بالخزي كمثل هذه اللحظة.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو
أعرف يقينا أن قمة واحدة لا تستطيع إصلاح الحال الذي وصلت له الأمة العربية، حتى لو عقدت في مثل هذا الظرف التاريخي العصيب، كما أعرف أنكم لستم وحدكم المعنيون بما وصلت له الأمة من حال مترد، فمفكرو هذه الأمة ومثقفوها شركاء بشكل أو بآخر بما حدث في الأمة عبر التاريخ، ولكن لكل تغيير وإرادة لحظة بداية، فلماذا لا تكون هذه القمة هي لحظة البداية التي تؤسس لمرحلة مختلفة من الإرادة العربية، وعندما تشعر الجماهير العربية ويشعر مثقفوها ومفكروها بإرادة التغيير ستعود الثقة بشكل تدريجي ويعود الفعل العربي والفعل الحضاري الذي يمكن أن يستعيد الأمة من هامش التاريخ إلى متنه.
ورغم ما أصاب الأمة العربية من الآخر عبر التاريخ فإنها أمة لا تبحث عن قطيعة مع العالم، ولكنها تريد علاقات متوازنة تعترف بكرامتها وبحقها في الحياة وفي الفعل.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو
نكتب إليكم لأن ما جرى في الدوحة وفي اليمن وفي سوريا وما يجري في غزة وطولكرم يخص كل بيت عربي، يخص فكرة أن لنا مكانا بين الأمم تُصان فيه القواعد، وأننا قادرون على الدفاع عن منطقنا في النظام الدولي لا بالصراخ، بل بأدواته نفسها.. وأنتم تمسكون بالكثير من تلك الأدوات التي يحترمها العالم ويهابها. بهذا المعنى أمامكم فرصة نادرة لتثبيت قاعدة جديدة يصل صوتها لجميع العواصم العالمية قبل تل أبيب، وهي أنه لن تكون هناك استباحة لعاصمة عربية من دون ثمن. أمام قمتكم في الدوحة قضايا كبيرة وكلها متعلقة بكرامة الأمة.. ولكن أيضا بوجودها، والتفريط في الكرامة يعني مع الوقت التفريط في الوجود وهذا ما لا يتحدث عنه أحد أبدا.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان