حفلت السنوات الأولى - التي تشكل الربع الأول من «رؤية عُمان 2040» - باهتمام متزايد بملف التنمية الإقليمية؛ حيث يمكن القول: إن هذا الملف انتقل من فلسفة (إيصال الخدمات العامة لكل منطقة جغرافية) إلى فلسفة تقوم على وضع أطر مؤسسية ونظامية تضمن استدامة كافة أشكال التنمية في المحافظات من خلال توجيه الاستثمار الأمثل في مواردها وخصائصها، وتمكين أشكال القيادة الاقتصادية المحلية من الداخل، ووضع أسس لاستقلالية المراكز الحضرية في تدبير شؤونها العامة بكفاءة وفاعلية. ولا شك أن الطريق طويل لتحقيق عدم المركزية بمفهومها وأسسها النظرية المتكاملة، ولكن يمكن القول: إن الخطوات التي اتخذت أرست بوضوح التوجه العام، والقواعد التنظيمية، وشكلت إطارًا لبعض الممارسات الأولية التي يمكن أن ترسخ التنمية عدم المركزية على المدى البعيد. ويمكن قراءة ما تحقق في سياقين مهمين: الأول فيما يتصل بالأطر التشريعية والتنظيمية وترسيخ ثقافة عدم المركزية، والثاني في طبيعة مشروعات التنمية المحلية التي أنجزت استثمارًا في المخصصات والموارد المادية التي أتيحت لتهيئة المرحلة الأولى من هذا الانتقال.
ففي البعد الأول؛ لا يخفى على راصد الجهود الواضحة في إرساء منظومة تشريعية ضامنة لهذا الانتقال من خلال المراجعات التي حدثت لنظام المحافظات، والتشريعات المتصلة بالمجالس البلدية، وتنظيم أسس ومعايير اختيار المشروعات الإنمائية في المحافظات، ووضع مؤشرات متعددة لقياس تنافسية وتنمية المحافظات بالإضافة إلى جهود تأطير حوكمة واضحة لعمل تلك الملاحظات، واعتماد الاستراتيجية الوطنية للتنمية العمرانية كموجه تخطيطي لأشكال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحضرية في سياق المحافظات. وفي البعد الثاني المتصل بنوعية المشروعات التي نفذت خلال المرحلة السابقة؛ تشير بيانات وزارة الاقتصاد أنه حتى ديسمبر من عام 2024 تم تنفيذ نحو 848 مشروعا ضمن برنامج تنمية المحافظات؛ حيث استحوذت مشاريع الخدمات العامة (صيانة، معدات، تسوية أراضٍ...) على النسبة الأكبر من هذه المشروعات بنحو 28% فيما جاءت المشروعات المتصلة بالحدائق والمتنزهات والمماشي الصحية في الترتيب الثاني بنسبة 17% يليها مشروعات إنارة الطرق بنسبة 13%، وبعدها ترتيبًا مشروعات (تجميل وتطوير المداخل والمناطق السكنية والصناعية والتجارية - الأسواق والمسالخ - رصف الطرق الداخلية - الواجهات والإطلالات والأماكن السياحية - رصف الطرق الصناعية والتجارية - الفعاليات - تصريف مياه الأمطار). والحديث هنا لنكون أكثر تحديدًا عن برنامج تنمية المحافظات ضمن الموازنة المخصصة له - بمعنى أنه لا يتضمن المشروعات التي تنفذها الحكومة المركزية ضمن الإنفاق الإنمائي العام بما في ذلك مشروعات المدارس والمستشفيات والطرق الرئيسية وسواها - وفي الحقيقة؛ فإن هذا التوزع يعكس ثلاثة استنتاجات رئيسة وهي:
- تركيز المرحلة الأولى على وضع بنية تكميلية وتجميلية للخدمات العامة الرئيسية في المحافظات، وتهيئة الأسس الأولية لتكامل البنى التحتية فيها، ولتكون أكثر جاذبية لأنشطة العيش والزيارة والسياحة والنشاط الاقتصادي.
- ضعف حضور المشروعات الاستراتيجية الكبرى - من خارج المركز- والتي يمكن أن تكون قاطرة لتعزيز النشاط الاقتصادية خاصة في القطاعات الرئيسية، ومحركًا لخلق فرص العمل، وداعمًا للأنشطة الاقتصادية الفرعية والتجارية.
- عدم وضوح صورة التكامل بين المحافظات في المشروعات، وهو أمر متطلب خاصة في ظل طبيعة الجغرافيا والتداخل السكاني والاقتصادي في محافظات سلطنة عُمان (مشروعات مشتركة وممتدة تتبناها محافظات متصلة جغرافيًا بالتضامن لتحقيق عائد اقتصادي مجد).
في هذا السياق يأتي سؤال: ما الذي تتطلبه المرحلة التالية لتنمية المحافظات؟ ما الذي نتوقعه من خطة التنمية الخمسية الحادية عشرة (2026 - 2030) أن تركز عليه في هذا الملف؟ ونعتقد هنا أهمية ستة متطلبات رئيسية: أولها توجيه المحافظات لاستثمار الموارد المالية المخصصة لها في سبيل خلق مشروعات استراتيجية اقتصادية كبرى تتصل بالنمط الاقتصادي المحدد لهذه المحافظات في إطار استراتيجية التنمية العُمرانية، وتستثمر في الخصيصة الاقتصادية الفاعلة لها، وتقود عملية التنمية الاقتصادية فيها. أما ثاني تلك التوقعات فهو ضرورة دفع المحافظات للتفكير خارج الصندوق في إيجاد موارد مالية مستدامة تمول بها عمليات التنمية في داخلها، سواء كان في صيغة رسوم للخدمات النوعية التي تقدمها عن سائر المحافظات، أو تلك التي تتحصلها من الاستثمار والانتفاع من أصولها ومواردها؛ بحيث تكون هذه الموارد تتسم بالاستمرارية. وثالث تلك التوقعات هو وجود برامج ومبادرات تدفع هذه المحافظات إلى توجيه التنمية سواء كانت الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية فيها نحو (هوية محلية واضحة ومحددة)؛ بحيث يتمكن الراصد والسائح والقاصد للمحافظات بعد سنوات محددة أن يرى محافظات تعكس هويات محددة في اقتصاداتها وعمرانها، في أنشطتها وفعاليتها ومواسمها، وفي الدور الإنتاجي للأفراد والمجتمع فيها. ونتوقع رابعًا أيضًا تعزيز دور مراكز الابتكار، ووحدات البحث العلمي، والمؤسسات الأكاديمية في حركة التنمية في المحافظات عبر خلق الابتكارات، وتشجيع التجارب العلمية، وربط حركة البحث العلمي (المحلي) بأطر التنمية الاقتصادية في هذه المحافظات.
ومن التوقعات كذلك هو في وجود أطر تقييمية للتنمية في هذه المحافظات تتعدى المؤشرات العامة (الأولية) إلى قياس أثر التنمية في هذه المحافظات، وقياس أثر الإنفاق التنموي، وإيجاد معادلات علمية ومنهجية لتحديد ذلك الأثر على السياقات الاجتماعية والاقتصادية، وتحديد مستوى القدرات الابتكارية في المحافظات، وقياس مؤشرات تنمية العنصر البشري فيها، وسواها من المؤشرات التي تتجاوز التحصيل والجمع العام، إلى تنفيذ أثر التنمية في نطاقها الجغرافي والمكاني. ويتوقع كذلك -مثلما أسلفنا- ضرورة تعزيز التواصل المكاني والتخطيطي بين المحافظات؛ تعزيزًا لوجود المشروعات المشتركة فيما بينها والتي تمتد على النطاق الجغرافي للمحافظات المتجاورة خاصة، وتستثمر في الخصائص الاقتصادية المشتركة لها، وتنفذ بالتضامن بين تلك المحافظات؛ لتحقيق عائد اقتصادي يمتد على المستوى الوطني والمحلي. وخلاصة القول أن ما شهدناه خلال السنوات المنقضية أرسى فكرًا وثقافة جديدة نلمسها اليوم في الخطاب السائل، وفي الذهنية المجتمعية، بل أصبح المجتمع مراقبًا بوعي لما ينجز في هذا الملف تحديدًا. ويتبقى أن تنقل المرحلة التالية هذا الوعي والثقافة إلى تنمية حقيقية تسهم في تغيير المجتمعات المحلية، وتعزيز اقتصادياتها وجودة الحياة فيها، وتنافسية سكانها اقتصاديًا ومعرفيًا.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان