استمعت مؤخرا إلى حوار «بودكاست» بعنوان: كيف ستنتهي دولة إسرائيل؟ وكان ضيف اللقاء الدكتور المصري أسامة الشاذلي الذي أبدع في حواره عن القضية الفلسطينية وجذور الصراع مع الكيان الصهيوني كعادة المفكرين المصريين الأقرب إلى فهم العقل الصهيوني وسرديته التوراتية والسياسية. وجذب انتباهي في هذا اللقاء عددٌ من المحاور أهمها: جدلية حل الدولتين -فلسطينية وإسرائيلية- والدولة الواحدة -فلسطينية أو إسرائيلية-، وفشل العرب في تقديم السردية العربية القوية للعالم عن أحقية الأرض، وعن فشل المشروع العربي السياسي والحضاري بعد سقوط الدولة العثمانية. نقلني هذا الحوار إلى فضول التفكّر في سرديتنا العربية الحالية التي ما زالت تهيمن على أذهان الساسة العرب رغم كل ما تكشفه لنا الأحداث وتؤكده من أننا مع رؤية غير ناضجة ولا مجدية؛ فعندما سأل المُحاوِرُ الطبيبَ والأديبَ الشاذلي عن رأيه في أيهما أفضل: حل الدولتين أم الدولة الواحدة لم يتردد الشاذلي أن يقول: إن حل الدولتين مبدأ خاطئ لا يقيم للقضية الفلسطينية والعربية حلا؛ إذ تثبت كل مظاهر الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين أننا أمام كيان قمعي وفصل عنصري لا يقيم للجوار والمختلف وزنا وقيمة. ولهذا عند العودة إلى المنطلقات التاريخية بما فيها الأحفورية والأثرية؛ فإننا أمام جذور جغرافية تعود إلى آلاف السنين مفادها أن البقعة الجغرافية الحالية التي أقيمت عليها ما نطلق عليه بـ«دولة إسرائيل» عربيةٌ خالصة عُرفت بـ«فلسطين».
أتفق -كما يتفق كثيرٌ من العرب- مع رؤية أسامة الشاذلي، وتضاعف هذا التوافق بعد أحداث ٧ أكتوبر، ولكننا أمام عقبة الموقف العربي -بشقه السياسي الرسمي- غير المتفق مع تفاصيل كثيرة تخص هذه القضية، وقبلها نحتاج أن نعود إلى ما قبل نشأة هذا الكيان الذي لم يكن ليكون لولا التراجع الحضاري العربي. وأحد أهم ما نحتاج إلى تمحيصه وفحصه ماهية المشكلة العربية خصوصا مع مشروعها الحضاري الذي تراجع بشكل تدريجي منذ أكثر من قرنين. ولعلّ هذه المشكلة تفسّر لنا سبب التراخي العربي الحالي في مواجهة عدوها اللدود الذي يقترب من سحق الجميع واحدا تلو الآخر، فيما يقف الجميع إما متفرجا بمواصلة عبارات «التنديد» و«الشجب» والبحث عن الحلول من الخارج، وإما فاقدا للحركة ويرى الصمت والحياد حلا. يعكس تمادي العدو الصهيوني وعربدته الإجرامية في المنطقة عبر قصفه لليمن وسوريا ولبنان وإيران ومؤخرا قطر في محاولته الفاشلة لاغتيال وفد حماس التفاوضي حالةَ الاستخفاف وعدم المبالاة ليس من الجانب الإسرائيلي فحسب، ولكن من الجانب الأمريكي الشريك الرئيس والمباشر لمشروع إسرائيل في الشرق الأوسط.
بجانب ما يتعلق بمسألة حل الدولتين أو الدولة الواحدة والجدل القائم بشأنها نحتاج أن نتذكر أننا في موقف ضعف وهوان لم يسبق أن وصلنا إليه. ومراهنات إدارة ترامب وحليفه نتنياهو المتكررة على تأكيد تحقق هذا النوع من الهوان العربي تجاوزت حدود التجارب بدءا من جرأة ترامب في ولايته الأولى على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس بمثابة إعلان القدس عاصمة لإسرائيل رغم كل التوصيات السلبية التي أحيط بها ترامب من قبل بعض مستشاريه وإدارة حكومته؛ ليثبت لهم أن مراهناته ناجحة وأقرب إلى مراهناته التجارية. وهذا ما يؤكده واقع جرأته على مساندة مشروع الإبادة الجماعية في غزة؛ بغية تحقق مآربه التجارية هناك، وبناء «ريفيرا ترامب» ومصانعه ومنتجعاته الفاخرة بجانب ضمانه للمضي قدما في مشروع إسرائيل التوراتي الذي تؤمن به -حد التقديس- جماعةٌ من أبرز أعضاء حكومة ترامب. وهذا ما يجعل نتنياهو واثقا -وبكل طاقته الاستخفافية- من نجاح مشروعه التوراتي-التجاري في غزة، والذي يراه امتدادا قادما لمشروعه الأكبر في المنطقة المتمثّل في تغيير شكل الشرق الأوسط.
في لقاء مع المفكر المصري فهمي هويدي أجرته قناة الجزيرة الأسبوع المنصرم ذكر فيه مقولة قالها له الأستاذ محمد حسنين هيكل قبل زمن طويل يصف فيها حال الأمة العربية مفادها: «نحن ذاهبون إلى داهية!». وأكاد أجزم أن أستاذنا هيكل سيضيف «ستين» قبل كلمة «داهية» لو كان معنا في هذه الأيام العجاف. وأدركُ جيدا أن رؤية هيكل تعكس قلقا وجوديا لمصير العرب الذي لا يتطلب جهدا من التفكير في فهمه وتحديد مساره المظلم في المستقبل؛ فنحن أمام معضلة وجودية كبيرة، ولا أعرف لها طريقا إلا بالعودة إلى مشروع الوحدة، ومواجهة هذه العربدة الصهيونية بشجاعة وجاهزية للتضحيات. وأردد ما قاله الأستاذ فهمي هويدي أننا يجب أن نتجاوز المناكفات الثقافية والكلامية المتمثلة بالتنديد والشجب «الشديد» والتصاريح السياسية غير العملية إلى أدنى متطلبات الرد والدفاع، وأقلها الضغط السياسي والاقتصادي على أمريكا والكيان الصهيوني. وكما يثق أستاذنا هويدي في العقل العربي بفهم تفاصيل ما يُقصد بمثل هذه الضغوطات وآلية تطبيقها؛ فإنني كذلك أعوّل على الوعي العربي مهما عصفت به الظروف.
لا يمكن أن ننسى الاستنكار من قبل بعض العرب لحركة المقاومة الفلسطينية؛ بسبب ما قامت به في السابع من أكتوبر، ويحمل لوما كبيرا وكأنها أغشيت أبصارهم عن أسباب هذا الهجوم التراكمية التي لم تجد حلولها مع فكرة العرب المتواضعة المتمثّلة في حل الدولتين المرفوضة جملة وتفصيلا من قبل الكيان الإسرائيلي نفسه غير الراغب في أي عملية للسلام، وها نحن نجد أن الكيان يتمدد جغرافيا في عدد من الأراضي العربية دون خوف ورادع، ويعلن نيّته ضم الضفة الغربية التي لا تجد فيها لحماس هيمنة واقعية على الأرض؛ فماذا ينتظر العربُ بعد كل ما أظهرته إسرائيل من جرأة واستخفاف بالدماء العربية ومقدساتها وسيادتها؟ أما زالت هناك رؤية في مشروع سلام في شكل دولتين تعيشان جنبا إلى جنب في سلام ووئام يحسدان عليه؟ أما زال هناك بصيص أمل في أن تحل مشروعات السلام الإبراهيمي والتطبيع هذه الأزمات؟ أم أن الوحدةَ العربية وبخياراتها الأصعب مثل المواجهة العسكرية المدعومة من قبل حلفاء موثوقين أشرفُ الخيارات رغم سردية الانتحار العسكري التي تتردد في أذهاننا؟ بعد كل ما تبيّن من خذلان أمريكي وتحالف غير مفيد، ومن فقدان الكيان الإسرائيلي لأبسط أخلاقيات الحرب؛ نحتاج في المقابل أن نعيد صياغة السردية السياسية وعقيدتها بعدد من الخطوات أهمها البحث عن حلفاء حقيقيين، وإدراك عدم جدوى معادلة السلام بحل الدولتين؛ فما بُنِيَ على باطل فهو باطل.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني