د.حكمت المصري.
حقائب النزوح في غزة عبارة عن بيوت صغيرة تحمل ذاكرة النازحين ، ما أن تبدأ منشورات جيش الاحتلال الإسرائيلي بمطالبة السكان بمغادرة مدينة غزة، حتى تسارع العائلات الفلسطينية إلى تجهيز حقائب النزوح وهي تنازع روحها. تدخل النساء في
حيرة مريرة، فكل غرضٍ له حكايته. يتساءل النازح : كيف لنا أن نختزل هذا كله في حقيبة صغيرة؟
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة، اضطر أكثر من 1.9 مليون فلسطيني إلى النزوح داخليًا، وفق بيانات الأمم المتحدة، تاركين خلفهم منازل مدمرة وحياة متصدعة. في قلب هذه المأساة برزت ظاهرة جديدة في أسواق القطاع وهي عرض حقائب النزوح، حقائب محلية الصنع تحوّلت إلى مستودع للذكريات وبيت متنقل يرافقالعائلات من خيمة إلى أخرى.
ذكريات في حقيبة
في مخيم النصيرات للنازحين، تجلس أم محمود ( 44 عامًا) داخل خيمتها الصغيرة تحيط بها أربع شنط كبيرة. تقول وهي تفتح إحداها: "هذه شنطة الملابس، يوجد بها ما تبقّى من حياة عائلتي. بعضها صيفي وبعضها شتوي، لا يلائم مقاسات الأولاد بعد أن كبروا مع استمرار الحرب ودخولها للعام الثاني."
وتضيف وهي تفتح شنطة أخرى مليئة بالأدوية: "هذه أهم ما نملك الآن ، أحمل فيها ما تبقى من علاج الضغط الذي أعاني منه منذ بداية الحرب، كما يوجد داخلها علاج زوجي الذي يعاني من تضخم في عضلة القلب ومرض السكري. أما بقية العلاج فهوعبارة عن أدوية خاصة بالأطفال حصلت عليها مؤخرًا من إحدى العيادات الميدانية،حين يمرض أحد نغوص داخلها كما لو كنا نفتش عن كنز."
أما الثالثة فُخصّصت للأوراق الرسمية وصور العائلة. تمسح على الوثائق بيد مرتجفة وتقول: "لو فقدناها سنصبح بلا ماضٍ ولا حاضر. في هذه الشنطة توجد بطاقات العائلة الشخصية وبعض الشهادات العلمية لأبنائي. لقد فقدنا بعض الأوراق ولكن هذا ما تبقى."
أما الشنطة الأخيرة فهي مخصصة لبعض ألعاب الأطفال التي حصلوا عليها من مؤسسة خاصة بالدعم النفسي في بداية الحرب: كرة قديمة، دمية مبتورة الذراع، وكتاب تلوين ممزق. تقول ابنتها جنى بابتسامة صغيرة: "هذه لعبتي التي ستعود معي إلى بيتنا الجديد."
أحلام صغيرة
في الخيمة المجاورة، جلست الطفلة هدى (10 أعوام) تفتح شنطتها المدرسية الوردية وتخرج دفترًا ملونًا. تقول: "اشتراها لي أبي للمدرسة قبل الحرب. الآن صارت بيتي، أضع فيها بعض ملابسي وبعض الدفاتر القديمة. حلمي أن أعود للتعليم. لقد اشتقت للمدرسة وزميلاتي ومعلماتي، اشتقت لحياتي كلها قبل الحرب."
أما الجدة أم سليم (67 عامًا) فقد احتفظت في حقيبتها البالية بمسبحة قديمة وغطاء للرأس وكثير من الأدوية. تقول: "المسبحة ترافقني منذ خمسين عامًا. أمتلك بعض الأدوية التي أحصل عليها بشق الأنفس من النقاط الطبية لعلاج الأمراض المزمنة مثل الضغط والسكر وتصلب الشرايين. وفيها أيضًا ثوب فلاحي مطرز ورثته
عن والدتي، ومصحف صغير، وبعض معلبات طعام مثل الفاصوليا والبازلاء والفول بالإضافة الي التقارير الطبية خاصتي."
بجوارها يجلس زوجها المسن الحاج أبو سليم (77 عامًا) الذي أخرج مفتاحًا صدئًا من شنطته الثقيلة وقال: "هذا مفتاح بيتنا في بيت حانون، لن أتركه ، شنطتي أثقل من كتفي، لكنها أخف من قلبي المليء بالذكريات."
خيمة العروس
وفي أقصى المخيم، تحولت خيمة صغيرة إلى ما يسميه الناس "خيمة العروس". رنا،شابة في العشرينات لم يمضِ على زفافها سوى أسبوعين قبل أن يهدم القصف بيتها،تحتفظ بجهازها في حقيبة واحدة: فساتين مطوية بعناية، وعلبة إكسسوارات بسيطة
بجوارها علبة مكياج وزجاجة عطر. تقول بحزن: "كنت أتخيل ملابسي معلقة في خزانة بيتي الجديد، لكنها الآن مطوية داخل شنطة في الخيمة."
إلى جانبها يجلس زوجها أحمد (27 عامًا) قائلاً: "هذه الحقيبة صارت بيتنا. كل ما نملكه موجود فيها. أصبحنا نخبئ أحلامنا حتى تنتهي الحرب."
ذاكرة متنقلة
داخل الخيام، يتم ترتيب الحقائب بدقة تشبه الطقوس: الملابس قرب المدخل،الأدوية بجوار الوسادة، الأوراق تحت الفراش لتفادي المطر والرطوبة، والألعاب في الأعلى كي تبقى قريبة من أيدي الأطفال.
ويقول رب الأسرة محمود سلامة (34 عامًا): "كل حقيبة هنا تشبه بيتًا صغيرًا...
نحملها معنا من مكان لآخر وكأننا نحمل غزة كلها على أكتافنا."
ويضيف: "كنا نتواجد في أحد مخيمات النزوح في حي الشيخ رضوان حين أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي القذائف نحونا. ركضنا تحت النيران، أنا أحمل الحقيبة وطفلتي، وزوجتي تركض بجانبي وهي بالكاد قادرة على السير. في ذلك اليوم نسيت
زوجتي لعبة ابنتي أثناء الفرار، فبكت الطفلة ولم تهدأ. عدت في اليوم التالي وخاطرت بحياتي لجلب اللعبة من المنزل."
منذ ذلك الحين، نزح محمود وعائلته تسع مرات، بعد أن تدمر منزلهم في الشجاعية شرق مدينة غزة.
مناطق إنسانية زائفة
في مخيمات النزوح الممتدة على طول القطاع، تصطف الحقائب بجوار الخيام مثل جنود مرهقين، شاهدة على مأساة إنسانية متواصلة، وذاكرة متنقلة لبيوت هُدمت وأحلام
لم تنطفئ بعد.
ومنذ تجدد العدوان الإسرائيلي في 18 آذار الماضي، شهدت "المناطق الإنسانية"تقليصًا متواصلًا على مساحتها، ولم تعد قادرة على استيعاب نازحين جدد، نظرًا لضيق مساحتها وامتلاء أراضيها بالمواطنين، وانتشار الخيام حتى على شاطئ البحر.
ووفق رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان رامي عبده، فإن إعلان الاحتلال مواصي خانيونس "منطقة إنسانية" كذبة دعائية جديدة، تفضحها وقائع الهجمات العسكرية والوضع الإنساني الكارثي لمئات آلاف النازحين فيها.
وأوضح عبده أن ادعاء الاحتلال بتوفير خدمات إنسانية أفضل في المنطقة يكذبه واقعها، إذ تفتقر إلى بنية تحتية تلائم أعداد مئات آلاف النازحين. وأضاف أن إسرائيل لم تتوقف يومًا عن استباحة المنطقة التي تدّعي أنها إنسانية بالقصف عبر الجو والبحر والبر، حيث شنت 109 هجمات جوية فيها أسفرت عن مئات الشهداء
وآلاف الجرحى.
وأكد أن مساحة المواصي لا تتجاوز 3% من مساحة القطاع وتفتقر للبنية التحتية والخدمات، كونها كانت منطقة زراعية غير مهيأة لاستيعاب مليون إنسان جديد،علاوة على نحو 800 ألف يقيمون فيها في خيام بالية بعد تدمير رفح وخانيونس.
كما شدد على أن الاحتلال يدّعي وجود مستشفيات في المنطقة، لكن المعطيات تؤكدأن هذه المستشفيات مستباحة وتتعرض للقصف كما حدث في مجمع ناصر الطبي، ومستشفى الأمل، ومستشفى غزة الأوروبي.
وبين عبده أن مئات آلاف المدنيين يعانون من التجويع في وقت تُحوّل القوات الإسرائيلية نقاط توزيع المساعدات التي تديرها منظمة "غزة الإنسانية" إلى مسارح للقتل والموت اليومي.
من جهتها، قالت وكالة "أونروا" إن ما تُسمّى "المنطقة الإنسانية" في مواصي خانيونس جنوبي قطاع غزة ما هي إلا "مخيم ضخم ومتزايد يُحشر فيه الفلسطينيون الجائعون في حالة يأس."
حصيلة دامية
وحسب ما صدر عن وزارة الصحة الفلسطينية فقد ارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي
إلى 64,605 شهيدًا و 163,319 إصابة منذ السابع من أكتوبر 2023.