«حينما نرجع إلى الماضي، علينا أن نترك الرماد ونبحث عن الجذوة المشتعلة»..
(المفكر الفرنسي جوريس)
(1)
مساحة لا يستهان بها من تاريخ الفكر العربي الحديث والمعاصر، تتصل بجهود وأعمال وسيرة المفكر وأستاذ الفلسفة الراحل زكي نجيب محمود (1905-1993) الذي حلت ذكرى رحيله الـ 33 منذ أيام.
عاصر قرنًا بأكمله من عقده الأول وحتى عقده الأخير، وتشكلت ثقافته من روافد عديدة لم يكن أولها ولا أرسخها الثقافة العربية والتراث العربي، بل كانت ثقافته الأولى عصرية حديثة بكل ما تعنيه الكلمة؛ كانت نافذته الأولى هي إجادة اللغة الإنجليزية إجادة تامة ما أتاح له في سن مبكرة أن يمارس الترجمة ويحذقها بل يتصدر قائمة المترجمين الأكفاء الأفذاذ الذين عملوا على نقل عيون التراث الإنساني وروائع الفكر الفلسفي إلى العربية، وقد ترجم زكي نجيب محمـود أعمالا كثيرة من بينها -على سبيل المثال- الجزآن الأول والثاني من كتاب «تاريخ الفلسـفة الغربية» للفيلسوف الإنجليزي المعاصر، برتراند رسل (1954).
وبصفة عامة، فالمتأمل في ترجمات زكي نجيب محمود يدرك أنها تشمل التراث الفكري الإنساني جنبا إلى جنب مع الكثير من أمهات الكتب في مجال الفكر المعاصر وهو ما ينسجم تماما مع دعـوته التجديدية التي كانت تقوم على أهمية الاستفادة من أفكار الأمم الأخرى (وهذا حديث نرجئه إلى حلقة أخرى من حلقات مرفأ قراءة لأهميته وقيمته ولغيابه بالكلية تقريبا عمن تصدوا لدراسة إرث زكي نجيب محمود ومشروعه الفكري والنقدي والإصلاحي على السواء).
(2)
في قراءته الممتازة للجزء الثالث من سيرته العقلية «حصاد السنين»؛ يوجز الدكتور نصر أبو زيد مراحل السيرة العقلية والتطور الفكري لزكي نجيب محمود منذ ميلاده وحتى السنوات الأخيرة في حياته، في أربعة مراحل كبرى؛ هي:
مرحلة التعرف على الحياة الفكرية والثقافية، ومحاولة الاندماج فيها، وهي المرحلة التي استغرقت أواخر العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. والمرحلة الثانية هي مرحلة الارتحال إلى الغرب في بعثة دراسية إلى انجلترا لمدة أربع سنوات، تعرف من خلالها على «الآخر» الغربي، الذي كشف لـ «الأنا» عن تخلفها، وحدد لها من ثم منظور رؤية ذلك التخلف. وفي هذه الرحلة أيضًا أمكن لمفكرنا أن يرى ثقافته من بعيد، وأن يرصد من ثم إيجابياتها وسلبياتها.
والمرحلة الثالثة هي مرحلة الانخراط في الحياة الثقافية والفكرية، خلال عقدي الخمسينات والستينات، حيث أسهم زكي نجيب محمود في عضوية العديد من اللجان الثقافية والفنية، بالإضافة إلى رئاسته تحرير مجلة «الفكر المعاصرة»، ودوره أستاذًا مرموقًا للفلسفة بكلية الآداب، ومن الجدير بالإشارة أن مفكرنا لم ينعزل عن الحياة الثقافية والفكرية في مصر خلال فترة وجوده في إنجلترا، فقد كان يساهم بمقالاته الأدبية في نقد الحياة الفكرية والعقلية المصرية بمقارنتها بمثيلتها في أوروبا. ويرى نصر أبو زيد أن هزيمة يونيو 1967م كانت نقطة تحول حاسمة في تعديل المسار الفكري لزكي نجيب محمود الذي يصفه بـ "المفتون بإنجازات الإنسان الأوروبي على جميع المستويات"، ومن ثم فقد أصبح البحث عن الهوية الثقافية الخاصة للمواطن العربي شغله الشاغل.
وكان انتقاله للعمل في جامعة الكويت أستاذًا زائرًا فرصة هيأت له الاتصال بالتراث الفكري العربي، والتعرف على أهم خصائصه، وكانت تلك هي المرحلة الرابعة في تطوره الفكري..
ولعلي أضيف أنا مرحلة خامسة وهي الأخيرة؛ وأسميها مرحلة التأمل والمراجعة وكشف الحساب، وهي التي شملت عقد الثمانينيات والسنوات الأولى من التسعينيات حتى رحيله في 1993.
(3)
ولد زكي نجيب محمود في العام 1905 وتخرج في مدرسة المعلمين العليا عام 1930 وهي (أي مدرسة المعلمين العليا تكافئ الآن كلية الآداب والتربية أو كلية الدراسات الإنسانية والتربوية، وقد كانت معقلا من معاقل الثقافة والفكر وتخرج فيها عدد ليس بالقليل من أعلام الثقافة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين).
وكانت بدايته العملية عقب تخرجه مع التدريس وهي المهنة التي سيحترفها زكي نجيب محمود ويمارسها طوال حياته وهي بمثابة البؤرة المركزية في نشاطه كلها، ينطلق منها ويتفرع إلى اتجاهات ونشاطات عدة، لكنه لا ينقطع عنها (ولو مضطرا) حتى يعود إليها مقبلا شغوفا، ومنها أخذ في متابعة ما كان يكتبه كل أعلام الحركة الفكرية والأدبية في مصر تقريبًا، وكثيرا مما كان يكتب في هذين المجالين في أوروبا وفي إنجلترا بصفة خاصة.
وفي تلك الفترة (ثلاثينيات القرن الماضي) بدأ نشاطه الثقافي يظهر في أشهر وأهم مجلتين ثقافيتين عربيتين في القرن العشرين؛ (الرسالة) و(الثقافة)، وفي (لجنة التأليف والترجمة والنشر)، وألف الكثير من الكتب التي ظهرت بالاشتراك مع الرائد النهضوي الكبير أحمد أمين، ومنها مجموعة «قصة الفلسفة اليونانية»، و«قصة الفلسفة الحديثة»، و«قصة الأدب في العالم» (ثلاثة أجزاء)، كما عرّب كتاب (فنون الأدب).
وفي عام 1944 أوفد في بعثة تعليمية إلى إنجلترا وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن عام 1947.
وعقب عودته بدأت تظهر ثمار دراسته، فصدر كتابه «المنطق الوضعي» في جزأين (1951-1952)، و«خرافة الميتافيزيقا» (1953)، و«نحو فلسفة علمية» (1959)، وغيرها.
وكان الإعلان عن تدشين مرحلته الوضعية في مقدمة كتابه «شروق من الغرب» الصادر عام 1951م، حيث يقول: "أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه، ولا على الناس شيئا، وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية، يكثر أو يقل، بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه".
(4)
ومن المهم هنا في هذا السياق التوقف مليا أمام ثلاثيته السِّيرية القيمة «قصة نفس» (1965)، و«قصة عقل» (1984)، و«حصاد السنين» (1991).
هذه الثلاثية التي أعدّها من أهم وأقيم السير الذاتية في الثقافة العربية، ومن أكثرها فائدة وإثارة للفكر والشعور وتحفيز الإرادة، والحث على طلب العلم والمعرفة. وقد قرأت هذه السيرة البديعة وأنا في الجامعة، واستوقفني بشكل لافت القدرة التحليلية الفائقة للرجل؛ تأملاته ومراجعاته النافذة لرحلته الفكرية والمعرفية، ومُساءلات عقله المتوهج الذي لا يتوقف ولا يكف عن المراجعة والنقد والتأمل والتحليل (وقد كان لي حظ الإشراف على إعداد الطبعة التي صدرت عن دار الشروق في العام 2016 بالمراجعة والإعداد للنشر)
كتب زكي نجيب محمود «قصة نفس» وهو في الستين من عمره، وأوضح في مقدمته أنه بناها على مبدأ فني ارتآه لنفسه إذ ذاك، وهو أن يروي قصة تلك النفس من الباطن لا من الظاهر؛ بمعنى أن يكون محور الاهتمام بالخلجات الداخلية قبل أن يكون بالأحداث الخارجية؛ فتلك الأحداث الخارجية على مرأى من الناس ومسمع، وأما التأثرات الداخلية التي استثارتها تلك الأحداث في دخيلة النفس، فتحتاج إلى بصيرة نافذة إلى العمق.
ثم جاءت «قصة عقل» بعد 20 سنة لتستدرك ذلك الجانب الذي سقط من الحساب في «قصة نفس»؛ أي ما عناه المفكر الراحل بـ سيرة «العقل» في حياته، العقل الذي كان أداة الدرس والتحصيل، وهو الذي ظل طوال سنوات النضج يتصيد "الأفكار" من عند الآخرين حينًا، وحينًا يعمل على توليدها في ذهنه، وهو الذي تولى الكتابة فيما كتبه، حتى لو كان المكتوبُ أدبًا خالصًا، فلقد كان الأدب الذي أنتجه زكي نجيب محمود من النوع الذي يستبطن "أفكارًا" في أُطر يقيمها لتصلح حاملاً لها.
وقبل وفاته بعامين فقط (1991)، خرج زكي نجيب محمود على الناس بالجزء الثالث وهو «حصاد السنين» والذي يقطر فيه زكي نجيب محمود سيرته، بوصفها شهادة على الحياة المصرية الثقافية من منظور مواطن مصري عربي "شاءت له فطرته أن يجعل من تحصيل العلم، وكسب الثقافة مهنته".. (وللحديث بقية)