بين الأصل والصورة فجوة، غالبا ما تكون مملوءة بالخيال، وفي ساحة المخيّلة تتأرجح التصوّرات، وقد رأى المفكّر الفرنسي جان بودريار (1929-2007) غلبة الأوهام في عالمنا المعاصر، ومقابل ذلك تراجع الواقع كنتيجة منطقيّة لتطوّر وسائل الإعلام؛ فالصورة أزاحت الواقع لصالحها، وأنشأت واقعا جديدا لا يمتُّ بصلة للواقع الذي نعيشه، وطغت عليه حتّى ليبدو غير موجود، لدى الموغلين في عوالم الصورة، وأحدث مثال الخبر الذي يقول إنّ مدرّبة حيتان تُدعى «جيسيكا رادكليف» توفيت بعد تعرّضها لهجوم من قبل حوت قاتل أثناء عرض حي، وبعد انتشار الخبر، نالت المدرّبة الضحيّة تعاطفًا عالميًا، خصوصًا أنّ الخبر جاء مدعوما بفيديو، لكن اتّضح لاحقا أنه خبر مفبرك، من ابتكار الذكاء الاصطناعي، ولا وجود له إلّا في وسائل التواصل الاجتماعي، التي يبحث مرتادوها عن مادّة، تستقطب متابعين ليرتفع عدّاد المشاهدات، حتى لو كانت من صنع الخيال.
وكثيرا ما نرسم صورا ذهنيّة باهرة لأشخاص، ثمّ نصطدم بالأصل، أو العكس، يقول تعالى: (وإذا رأيتهم تُعجِبُك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خُشُب مُّسنَّدة)، وقد يكون هؤلاء الأشخاص قد ساهموا في صنع صورة مزيّفة من نسج خيالهم، وبكلّ الأحوال، غالبًا ما تكون هناك مسافة من صنع الخيال، ويمكن القول إنّ التطابق بين الأصل والصورة من النوادر؛ فنحن نرسم صورًا إما أكبر أو أقل ممّا يبدو الأشخاص عليه، حسب درجة العاطفة، والإحساس، ويكون الواقع هو المحكّ، والأوهام ربائب الشعراء؛ لشدة أحاسيسهم وعواطفهم، التي تسبغ على الواقع الكثير مما ليس فيه، ولهذا فالصور التي يرسمونها تكون في الغالب بعيدة عن الأصل، تماما، أقرب ما تكون للوهم، وهنا تكمن لذّة النص، وجمال الفن، وتبلغ الصورة أقصى مدى لها في مبالغات الشعراء، وكلّما بالغ الشاعر في رسم صور بعيدة عن الممدوح، بلغ مرتبة أعلى في الإجادة بالفن، يقول أبو الطيّب المتنبّي:
وأستكبر الأخبارَ قبل لقائه
فلما التقينا صغّر الخبرَ الخُبرُ
ويقصد أنّه قبل لقائه الممدوح سمع الكثير من الأخبار، وعندما التقاه، فإن الاختبار صغّر الأخبار؛ لأنه فوق ما وصفوا، وقيل إنّ (عزّة) التي هام بها الشاعر (كُثير) دخلتْ على عبدالملك بن مروان، وقد شاختْ، فقال لها: أنت عزّة كثيِّر؟ فقالت: أنا عزّة بنت جُمَيْل. قال: أنت التي يقول لك كثيِّر:
لعزة نارٌ ما تَبُوخ كأنه
إذا ما رَمَقْناها من البعد كوكبُ
فما الذي أعجبه منك؟ فقالت له: أعجبه منّي ما أعجب المسلمون منك حين صيَّروك خليفة! فضحك عبدالملك حتى بدت له سنٌّ سوداء كان يخفيها، فقالت: هذا الذي أردت أن أبديه!
وعندما كتب الشاعر نزار قباني قصيدة عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد يقول فيها:
«الاسم: جميلة بوحيرد
رقم الزنزانة: تسعونا
في السجن الحربيّ بوهران
والعمر اثنان وعشرونا
عينان كقنديلي معبد
والشعر العربيّ الأسود
كالصيف..
كشلاّل الأحزان
إبريق للماء.. وسجّان
ويد تنضمّ على القرآن»
فوجئ أنها عندما زارت بيروت، وسُئلت عن القصيدة لم تبدِ ارتياحها لها، بل كذّبت بعض ما ورد فيها بقولها إن رقم زنزانتها لم يكن (٩٠) كما جاء في القصيدة، وإنها لم تُسجن في (وهران)، وحين نُقل الخبر لقبّاني استاء، وعبّر عن خيبته بقوله: «نحن الذين جعلنا منها بطلة، ووضعناها في منطقة التقديس، كنا نرى فيها مستقبلنا، وأمنياتنا، ليست جميلة بوحيرد الإنسانة، بل الأسطورة الرائعة التي كتبت عنها»، ويضيف «كتبت عن جميلة ربما البطلة الغائبة، والموجودة في أمنياتي، ولكني أقول لها بأنني عندما كتبت عنها لم أسجّل ملفّا عسكريّا، أنا اتخذتها رمزا لبطولة امرأة من بلادي كما أحبّها أن تكون، ولكن للأسف». والمعروف أن جنازة عبدالحليم حافظ خرج في تشييعها عدد قُدِّر ما بين 3 و4 ملايين شخص، وكانت مشاعر هذه الملايين محتشدة، وفي حالة هيجان عاطفي، وأسى، وكانت وتيرة الحزن ترتفع كلّما تقترب الكاميرات التي تصوّر مشهد التشييع من الجنازة، ليتحوّل المشهد إلى هستيريا جماعية، ولكن كيف سيكون شعور هؤلاء الذين مشوا وراء الجنازة لو علموا أنّ النعش كان فارغًا؟!
كما كشفت عائلته، يقول الخبر: «إنّ وزير داخلية مصر حينها خشي من تدافع الناس الكبير على النعش، فقرّر إبقاء النعش الحقيقيّ في المسجد وإخراج نعش فارغ للجماهير»، هذا الموقف نموذج من نماذج أوهام الصورة التي تسيطر على الناس، وكلما ننضج نرى مساحة الأوهام في حياتنا واسعة، والحقائق التي نؤمن بها، إيمانا كاملا، ونستميت في الدفاع عنها ونفاجأ أنها في الحقيقة ليست كذلك، يقول المعري:
توَهَّمتُ خَيراً في الزَّمانِ وأهلِهِ،
وكانَ خيالاً، لا يَصِحُّ، التوهُّمُ
فما النّورُ نوّارٌ، ولا الفجرُ جَدوَلٌ،
ولا الشّمسُ دينارٌ، ولا البدرُ دِرهَمُ
وكلّما نضيق ذرعا بالواقع نلجأ إلى الفن، لنبحر في عالم الخيال، ففيه نجد متنفّسا، وتفريجا للكروب، والصورة شكل من أشكال الفنون، بل الفن الأكثر حضورا، لا سيّما ونحن نعيش اليوم العصر الذهبي للصورة.
عبدالرزّاق الربيعي شاعر وكاتب عماني