انتبهوا أيها السادة إلى سايكس- بيكو الجديدة. هذا خطاب موجه إلى الجميع؛ إلى الساسة وعموم الناس، بل إلى كل عربي لا يدرك الخطر المحيق به: خطر سايكس-بيكو الجديدة، وهو خطر يفوق النسخة الأصلية لمعاهدة سايكس- بيكو، وهو ما يحتاج إلى شيء من الإيضاح. معاهدة سايكس- بيكو هي المعاهدة أو مذكرات التفاهم بين وزارات خارجية بريطانيا وفرنسا وروسيا التي وقعها الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، وصادقت عليها حكومات تلك الدول في مايو 1916. وهي معاهدة قامت على تقسيم نفوذ الدولة العثمانية في منطقة الشرق الأوسط؛ بحيث تسيطر بريطانيا على فلسطين والأردن وجنوب العراق ومنطقتي حيفا وعكا، وتسيطر فرنسا على جنوب شرق تركيا وشمال العراق وسوريا ولبنان، بينما تسيطر روسيا على أرمينيا الغربية والقسطنطينية والمضايق التركية. وبمقتضى هذه المعاهدة وُضعت بلاد الشام وما بين النهرين تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني سنة 1920، وهو الانتداب الذي استمر حتى سنتي 1946 - 1948. ويمكن القول: إن وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين هو أحد تداعيات هذه المعاهدة.

سايكس- بيكو الجديدة تسمى أحيانًا «سايكس بيكو 2» باعتبارها نسخة جديدة من النسخة الأصلية، وإن كانت مختلفة عنها تمامًا. إنها نسخة جديدة من طبيعة المعاهدة أو الاتفاقية باعتبارها في الأصل اتفاقية استعمارية، ولكنها مختلفة تمامًا من حيث الأطراف المشاركة فيها، ومن حيث تقسيم المناطق والنفوذ، ومن حيث إنها لا تشكل معاهدة مكتوبة وإن كانت مكشوفة، بل معلنة أحيانًا بشكل مضمر في تصريحات حكومتي الصهاينة والولايات المتحدة؛ فهذان هما طرفا المعاهدة الجديدة التي ظل الغرب يدعمها بقوة، وإن تباينت مواقفه الراهنة؛ بسبب حالة من التوتر السياسي بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية. معاهدة سايكس- بيكو الجديدة إذن هي استراتيجية جديدة لتقسيم الشرق الأوسط؛ بحيث يصبح خاضعًا للهيمنة الأمريكية من خلال سيطرة إسرائيل باعتبارها الذراع الطُولى القذرة في تحقيق تلك الهيمنة، ولا بأس في الاستعانة في ذلك بترويج مزاعم إسرائيل التوراتية على لسان رئيس حكومتها وقاداتها بإحياء الحلم التوراتي في تحقيق دولة إسرائيل الكبرى التي تشمل فلسطين والأردن والعراق ولبنان وسوريا وسيناء مصر وأجزاء من شمال السعودية. سياسة الإدارة الأمريكية الراهنة تدعم هذه الاستراتيجية بقوة؛ لتحقيق مآربها الخاصة في الهيمنة على المنطقة؛ مخطط جديد يهدف إلى استعمار جديد لما يسمونه «الشرق الأوسط الجديد»!

تبقى المشكلة التي تواجه هذا المشروع الاستعماري الجديد هي آلية التنفيذ. لا شك في أن هذه الآلية تلجأ في المقام الأول إلى الدعم الأمريكي غير المحدود بالسلاح لإسرائيل حتى في حرب إبادتها للشعب الفلسطيني؛ تمهيدًا للاستيلاء على مجمل فلسطين، وهو المقدمة الأولى في تحقيق هذا المشروع. ولا شك في أن كثيرًا من الدول الغربية لا تزال تدعم إسرائيل بالسلاح في إبادتها لشعب فلسطين، وإن بدأ بعضها يتراجع عن هذا المسلك المشين إزاء الضغوط الدولية والشعبية والإعلامية؛ بحيث أصبح بعضها يسلك هذا المسلك في الخفاء، أو يتحفظ عليه.

ولكن الدعم العسكري وحده لا يكفي كآلية لتنفيذ هذه الاستراتيجية الاستعمارية؛ ولذلك لجأت إسرائيل إلى التوسع في مخطط الاستيطان؛ فكل يوم نسمع عن إنشاء مستعمرات جديدة، حتى في أراضي الضفة الغربية؛ بحيث تعزل الأراضي الفلسطينية بعضها عن بعض وتحول إلى «كانتونات» سكانية يمكن إدارتها فيما بعد. والحقيقة أن المستهدف من دولة إسرائيل الكبرى (التي هي الوجه الحقيقي لمشروع الشرق الوسط الجديد) هو خلق بؤر استيطانية وعسكرية تتوسع باستمرار، وتكون أداة لهيمنة الولايات المتحدة على المنطقة. ولا مشكلة هنا- فيما يرى هؤلاء- عمن يمكن أن يملأوا تلك المنطقة على حساب السكان الأصليين؛ إذ يمكن جلب المزيد من اليهود عبر العالم في نوع من الهجرات الجديدة، ولكن الهيمنة المنشودة هنا هي هيمنة سياسية، وليست هيمنة سكانية. حقًّا إن هذا المشروع يُعد طوباويًّا، وهو سيبقى في إطار الطوباوية فقط ما دامت هناك شعوب عربية حية قادرة على المقاومة، وليس هناك ما هو أكثر نبلا وصدقًا وبسالة في هذا الصدد من مقاومة الشعب الفلسطيني نفسه، ومن أصوات الشعوب الحرة التي بدأت تتعالى في العالم الغربي، ومن أصوات الإعلام الحر، بل حتى أصوات الإعلام المنحاز الذي أصبح عاجزًا عن تبرير حرب الإبادة في فلسطين التي هي مقدمة لتحقيق المشروع الاستعماري الجديد في منطقة الشرق الأوسط. ولا ينبغي هنا أن ننسى المقاومة من خلال الفن الأسرع والأقوى تأثيرًا من أية أجهزة إعلامية؛ ومن ذلك على سبيل المثال الفيلم الذي يُعرض حاليًّا في مهرجان فينسيا والذي يشارك فيه نجوم عالميون كبار، وهو فيلم عن الطفلة الفلسطينية هند رجب التي اغتالها الاحتلال بوحشية بمئات الرصاصات بعد اغتيال أسرتها في سيارتهم. إن الفيلم قد أوصل باقتدار وبلغة السينما صوت هند رجب وهي ترسل استغاثتها المتكررة خلال الساعات القليلة السابقة على اغتيالها؛ ولذلك فقد وجَد هذا الفيلم استحسانًا على نطاق عالمي واسع، ونال جائزة الأسد الفضي للمهرجان، وقد أصبح مرشحًا للحصول على الأوسكار. هذه الأشكال من المقاومة هي الحائل الأول دون تحقق المشروع؛ لأنها أسهمت بقوة في تغيير الصورة الذهنية الشائعة عن إسرائيل باعتبارها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة التي تتبنى منظومة القيم الغربية. وكل هذا قد أدى إلى تدني سمعة هذه الدولة بشكل غير مسبوق، والنظر إليها باعتبارها دولة استعمارية وإرهابية، وهو ما نال من التعاطف معها أو مع الولايات المتحدة الداعمة لها بقوة (على المستوى الرسمي على الأقل).

ولكن الحيلولة دون تحقق هذا المشروع لا يمكن أن يحدث فقط بأيادي الآخرين، بل يجب أن تكون مدعومة بقوة من خلال الحكومات العربية؛ ليس فقط لأن القضية أو الأزمة عربية، وإنما أيضًا لأن الخطر يحيق بها جميعا؛ ولذلك ينبغي أن تسعى إلى درئِهِ ومقاومته بكل السبل الممكنة.

د. سعيد توفـيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة