يؤكد لنا التاريخ أن كل كلمة لا تهادن الطغيان، تنتزع روح صاحبها بطرق شتى. فهكذا يُجازى من ينطق بما لا يُشتهى سماعه! سلسلة طويلة من الأسماء الثقال، تمتد إلى اليوم. وتاريخ محبط وطويل يثبت أن الكلمة حين تقف أمام الحقيقة، تهدر خلفها دما ساخنا لا يجف. لذلك ظلّ الحكام عبر التاريخ ينظرون إلى الشاعر والمفكر كعدوّ مقيم، وبندقية هائجة يصعب ترويضها. فحين يتعذر إسكات الصوت بالعدل والحكمة، يلتجئون إلى المثلة، وإلى الدم والتنكيل، وإلى إحراق الجسد في التنور، أو تقطيعه قطعة قطعة بألم ومهانة أمام الناس، أو بطرق أكثر حداثة وأقل إهدارا لرائحة الدم، كالتي ينتهجها الكيان الغاصب اليوم، وهي إرسال غارة جوية لإبادة الكاتب هو وعشيرته حتى لا يبقى له من بعده عِرقا يسير على خطاه.
وهنا أحب ذكر بعض المقامات التاريخية العليا. فقد قال محمد بن سلام الجمحي: «سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن في العرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد الفراهيدي ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع». وقال الشبلي في الحلاج قولا مشهورا، والشبلي هو أحد أبرز مريدي الحلاج وصديقه الحميم: «أنا والحسين بن منصور شيء واحد، غير أنه أظهر ما كتمتُه».
ابن المقفّع، علم من أعلام الفكر الذي ترجم الحِكم إلى العربية، كانت نهايته مأساوية. فقد قُطّع وهو حي وأُحرق جسده بسبب رسالة كتبها للمنصور واعتُبرت تحديا للعرش. أما الحلاج، الذي لا يزال اسمه حتى يومنا هذا، يتأرجح بين مريديه وخصومه، فقد صُلب وجُلد وقُطعت أطرافه ثم أُحرقت جثته ونُثر رمادها في نهر دجلة، لأن كلمة «أنا الحق» بدت للفقهاء والسلطة تهديدا لا يُحتمل. وغيلان الدمشقي الذي قُطعت يداه ورجلاه وصلب لأنه تجرأ وقال للخليفة: «ستحاسب أمام الله على أموال المسلمين». ودعبل الذي حمل خشبته أربعين عاما، ثم انتهت حياته مقتولا في الأهواز بسبب حدة لسانه وسلاطة هجائه التي لم يسلم منها حتى الولاة والأمراء. ثم يأتينا من غزة صوت رفعت العرعير وهو ينادي: «نحن لسنا أرقاما» (We Are Not Numbers). وهو الذي ساهم بقلمه وصوته في ربط الكتّاب الغربيين بالكتّاب الشباب في غزة، من خلال نشر تجربة المقاومة عبر تحريره لكتاب «غزّة تقاوم بالكتابة». صدر الكتاب عن منشورات تكوين بعد استشهاد رفعت العرعير إثر غارة جوية إسرائيلية على بناية سكنية. حيث تشير الدلائل إلى أن المحتل الغاشم استهدف العرعير وعائلته بعد تلقيه تهديدات متكررة لإخراس نزف قلمه إلى الأبد. كما نشر صحفي إسرائيلي يدعى موشي يائير عبر منصة إكس تعليقا على اغتيال العرعير، قائلا: إن «سبب اغتيال الأستاذ الجامعي رفعت العرعير هو التقارير التي كان ينشرها باللغة الإنجليزية عن الانتهاكات التي تحصل في غزة، وكانت تتداولها المنظمات الغربية، هذا سبّب قلقا لحكومة نتنياهو». وبعد وفاة رفعت العرعير، نُشر آخر ديوان له والذي يحمل عنوان: «If I Must Die: Poetry and Prose»، ويشار إلى أنه أصبح من أكثر الكتب مبيعا، كما تُرجِم إلى لغات عديدة. هكذا تُخرس الأصوات وتُحرق الأفواه، ولكن الكلمة تبقى وتسير مع الحياة ما سارت.
آية السيابية كاتبة عمانية