تميل التغطية الإعلامية لمحاكمة الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو إلى التركيز على أوجه التشابه الصارخة بين حالته ومسيرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المهنية. كل منهما يميني متطرف خارجي حَـكَـمَ أثناء الجائحة، واحتضن بفخر نزعة الإنكار إزاء علوم الطب والمناخ، وأعلن كل منهما على الملأ أنه لن يقبل الهزيمة الانتخابية، وبعد خسارته في صناديق الاقتراع حَـرَّضَ أنصاره على اقتحام الهيئات التشريعية الوطنية في بلده لقلب النتائج.
ولكن اليوم يجلس أحدهما في مقعد المتهم، ويواجه في الأرجح الإدانة من المحكمة العليا في بلده، والآخر يَـحكُم الولايات المتحدة، وكما خلصت مجلة الإيكونيميست في جملة ما كان لأحد أن يتصورها قبل بضع سنوات: «مؤقتا على الأقل انتقل دور الراشد الديمقراطي في نصف الكرة الغربي إلى الجنوب». ومن الواضح أن فهم الكيفية التي حدث بها ذلك التحول أمر بالغ الأهمية في التصدي للتحديات الرئيسية التي تواجهها الديمقراطيات اليوم.
برز بولسونارو كسياسي في أول انتخابات أجريت في ظل دستور 1988 في البرازيل، والذي أعاد الديمقراطية بعد أكثر من عقدين من الزمن من الديكتاتورية العسكرية، وكان برنامجه الانتخابي ضاربا بجذور عميقة في الاستبداد. في وقت مبكر من حياته المهنية ادّعى بولسونارو أن الديكتاتورية العسكرية في البرازيل فشلت؛ لأنها لم تقتل العدد الكافي من اليساريين. كما زعم أنه كان من الواجب إعدام فرناندو هنريكه كاردوسو رئيس البرازيل من عام 1995 إلى عام 2002 (وأول رئيس يُـعاد انتخابه)، ووعد بإغلاق الكونجرس إذا انتخب لشغل المنصب. وبصفته عضوا في مجلس النواب أثناء إقالة الرئيسة ديلما روسيف في عام 2016 أهدى صوته إلى العقيد الذي أشرف على تعذيبها أثناء الحكم الديكتاتوري. هذه الأمثلة -وأخرى غيرها لا حصر لها- تُظهر أن بولسونارو كان نتاجا للديمقراطية على الرغم من هجماته عليها لعقود من الزمن. كان مسار ترامب مختلفا؛ فقد صعد نجمه في ثمانينيات القرن الماضي كشخص يستمتع بإلقاء القنابل السياسية، فدعا إلى توقيع عقوبة الإعدام على خمسة مراهقين من السود واللاتينيين اتُهموا ظُـلما بجريمة الاغتصاب في نيويورك. وفي حين صقل هويته كمقدم لتلفزيون الواقع يتمتع بنفوذ كبير بسبب ثروته؛ فقد بنى علامته السياسية المميزة، وأسس حملته الرئاسية على اللعب على أوتار مجموعة متنوعة من المظالم الاقتصادية والثقافية. ورغم أن ترامب لم يكن قَـط ملتزما بالديمقراطية الليبرالية؛ فإن أكثر مشاعر الازدراء حِـدّة من جانبه كانت موجهة في كثير من الأحيان إلى المحاكم.
في نظرة ترامب للعالم تضمن الثروة والسلطة أن المؤسسات القانونية لن تشكل عوائق أبدا. وهو اعتقاد حمله معه إلى عالم الأعمال والسياسة؛ حيث يسعى في فترة رئاسته الثانية إلى تقويض الدستور، وإنهاء استقلالية الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والتلاعب بالنظام الانتخابي، وإعادة تعريف المواطنة.
هُزِم كل من ترامب وبولسونارو في صناديق الاقتراع عندما سعى لإعادة انتخابه أول مرة، ولكن هنا تنتهي أوجه التشابه.
النظام الانتخابي في البرازيل أكثر قوة ومركزية من النظام الأمريكي؛ إذ تشرف عليه السلطة القضائية الفيدرالية، وتجرى الانتخابات في مختلف أنحاء البلاد في يوم واحد، مع إتاحة التصويت للجميع على قدم المساواة ــ من القرويين الأصليين في منطقة الأمازون إلى المزارعين في بامباس، وتُـعـلَن النتائج في غضون ساعات. كان بولسونارو أول مرشح يطعن في نزاهة الانتخابات في البرازيل في عقود من الزمن، ليقوض بذلك نظاما كان يوحد البلاد في أمان، يتناقض هذا مع النظام الانتخابي الأمريكي المجزأ، الذي استغلّه ترامب لتقويض إيمان مؤيديه بالديمقراطية وتمهيد الطريق أمام تمرد السادس من يناير 2021، كما ضغط على مسؤولي الولايات لحملهم على تزوير النتائج. وقد ذهب بولسونارو إلى أبعد من ذلك؛ فقد كشفت التحقيقات أنه ناقش مع مساعدين مقربين منه مسودة مرسوم يقضي بمنع تنصيب الرئيس المنتخب لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، وهي الخطة التي فشلت؛ فقط لأن الجيش كان منقسما. وتضمنت خطة أخرى اغتيال لولا، ونائب الرئيس جيرالدو ألكمين، وقاضي المحكمة العليا ألكسندر دي مورايس. وهي مؤامرة أجهضت في اللحظة الأخيرة مرة أخرى؛ بسبب نقص الدعم العسكري. في أعقاب الانتخابات خَـيَّـم أنصار بولسونارو خارج ثكنات الجيش مطالبين بتدخل الجيش، بينما شجع مسؤولون حكوميون التصعيد. وبعد أسبوع من تنصيب لولا اجتاحوا بعنف مقرات أفرع الحكومة الثلاثة.
في الولايات المتحدة تحول اتجاه الرياح السياسية بعد أن حرض ترامب الغوغاء الذين اعتدوا على مبنى الكابيتول الأمريكي في السادس من يناير 2021. وقد واجه ترامب اتهامات جنائية، لكن أشدها خطورة أصبح من غير المجدي مناقشته عندما قضت المحكمة العليا الأمريكية بأن الرؤساء يتمتعون بحصانة شبه كاملة من الملاحقة القضائية. وقد أنهى فوزه في انتخابات 2024 فعليا كل محاولات محاسبته. على النقيض من ذلك؛ واجه بولسونارو مقاومة أكبر كثيرا من جانب النظام القانوني. كانت المحكمة العليا في البرازيل أحد أهدافه الرئيسية أثناء فترة رئاسته عندما وجّه المدعي العام البرازيلي ــ وهو منصب أكثر استقلالية عن السلطة التنفيذية مقارنة بنظيره الأمريكي ــ اتهامات ضده. كان ذلك نقطة تحول في تاريخ إفلات محاولات الانقلاب العسكري في البرازيل من العقاب. يُحاكم بولسونارو الآن بتهمة محاولة إبطال حكم القانون الديمقراطي، وهي جريمة محددة بوضوح في القانون البرازيلي على عكس الحال في الولايات المتحدة.
من المهم هنا أن نعلم أن القانون البرازيلي يجرم صراحة محاولات الانقلاب؛ استنادا إلى افتراض مفاده أن الانقلاب الناجح من شأنه أن يقوض المساءلة القانونية. أما ادّعاء بولسونارو بأنه تأمل فقط في الفكرة، لكنه لم يتصرف على أساسها؛ فإنه يخضع الآن للتدقيق القضائي. يجسد كل من ترامب وبولسونارو رمزا لعصر الاستبداد التنافسي المعاصر، وكل منهما يمارس التضليل بمهارة، ويعتمد على خطاب معادٍ للعلم والحقوق، ويزدري المؤسسات الديمقراطية. لكن بولسونارو يحمل بصمة جلية لسلطوية القرن العشرين؛ فمثله السياسي الأعلى هو الديكتاتورية العسكرية التي انتهت في ثمانينيات القرن العشرين. وفي حين لا يستطيع أي بلد أن يدافع بشكل كامل ضد تآكل الديمقراطية؛ فإن دستور البرازيل في مرحلة ما بعد الديكتاتورية وضع ضمانات قوية.
والآن يُـحاكَم بولسونارو؛ لأنه لم يستطع كبح جماح نفسه انتظارا لتفكك الديمقراطية البطيء. لقد حاول تنظيم انقلاب كلاسيكي، فوجد بلدا مستعدا لرفضه -بصفتي مواطنا برازيليا اعتُقل أو نُفي أفراد من عائلته من قِـبِـل النظام العسكري؛ أجد أنه من المطمئن أن نرى بولسونارو يحاكَم، خاصة وأنه لم يحدث من قَـبل قَـط أن أُدين أي قائد عسكري بجرائم أثناء حُـكمه الديكتاتوري-. ولكن اليوم أصبح السلطويون المتنافسون -وليس الانقلابات العسكرية- هم من يمثلون التهديد الأعظم لحرياتنا في البرازيل والولايات المتحدة وأماكن أخرى. يجب أن نوقف الاضمحلال التدريجي الذي اعترى المؤسسات الديمقراطية التي تمكنهم من الوصول إلى السلطة.
بيدرو أبراموفاي وزير العدل البرازيلي (2010-2011)، ونائب رئيس البرامج في مؤسسات المجتمع المفتوح.
بروجيكت سنديكيت