على هامش الجدل القائم حول تسمية مهرجان المسرح التجريبي بين من يدعو إلى استبدال الكلمة أو محوها يتجدد السؤال حول قضايا أعمق تتصل بالبنية الثقافية للمجتمعات العربية، ومدى اقترابها من الحداثة، ومساهمتها في صناعة التكنولوجيا، فضلًا عن دور مثقفيها في تقديم رؤى وأفكار لتطوير هذه المجتمعات. فمنذ أن ظهر سؤال التجريب في ثمانينيات القرن الماضي كحاجة معرفية ملحّة لدى المستنيرين نشأت معه طموحات وتساؤلات عن معناه وحدوده: هل ينطلق من التراث أم يتجاوزه؟ وهل يمكن أن يؤسس لنموذج جمالي عربي مغاير، أم سيبقى مرتبطًا بمحاولات محاكاة الغرب؟

وقد نوقش هذا السؤال في قاعات المسارح العربية من المحيط إلى الخليج، وكان الهدف المعلن هو تطوير الثقافة المسرحية، وملاحقة ركب التقدّم. غير أن معنى التجريب اتسع حتى صار في بعض الأحيان ممارسة مفتوحة على أي شكل دون فلسفة واضحة تسنده. بينما المجتمعات التي أنجزت ثورات علمية وتقنية جعلت من التجريب المسرحي امتدادًا لروح البحث العلمي مرتبطًا بالزمن والوجود والجسد، وبالعمل في فضاءات مادية أو غير مادية على الخشبة. ومن هنا أمكن التفكير في جسد الممثل بوصفه كتلة من الذرات تتحرك في فراغ، أو النظر إلى السينوغرافيا باعتبارها مدخلًا إلى أقصى حدود التعبير. ومع صعود الذكاء الاصطناعي وابتكاراته المذهلة يتأكد أن سؤال التجريب لم يعد شأنًا فنّيًا صرفًا، بل صار سؤالًا يلامس منظومة الحياة بأكملها.

في هذا السياق كان على الباحثين والنقاد والمخرجين العرب أن ينشغلوا بجدّية بمفهوم التجريب داخل بيئات ما زالت أسيرة أنساق ثقافية غارقة في القِدامة، ولا تفك ارتباطها بالماضي إلا عبر التنظير أو الانبهار بما ينتجه الآخر. والنتيجة غالبًا ما تتراوح بين محاولات تقليد أو ابتكارات غير مكتملة. وقد لامس هذا الإشكال ما أشار إليه الدكتور محمد مسعد في منشور له على الفيسبوك؛ حيث اعتبر أن كثيرًا من عروض البدايات بدت مبهرة؛ فقط لأنها كانت جديدة آنذاك مؤكدًا أن مهرجان التجريبي كان في جوهره تعبيرًا عن رغبة محمومة في تطوير الحركة المسرحية المصرية، وربطها بالتحولات العربية والعالمية، فيقول: «ومع الإتاحة التي وفرّها الإنترنت إتاحة كشفت أن كثيرا من عروض البدايات كانت مبهرة؛ فقط لأنها كانت جديدة على المسرحيين والنقاد وقتها... ببساطة؛ كان للتجريبي هدف محدد، وقدر يُحقق جانبا كبيرا منه بسرعة [...] عنوان التجريبي كان تعبيرا مباشرا عن رغبة محمومة ومؤجلة في تطوير الحركة المسرحية المصرية وربطها بالتحولات العربية والعالمية في مواجهة السائد...». هذا الرأي يكتسب وجاهته؛ لأنه يذكّر بفضيلة التفكير خارج الصندوق، وهي الفضيلة ذاتها التي أشارت إليها الناقدة هدى وصفي حين عرّفت التجريب بأنه «الرغبة في التجديد، والحاجة إلى تدمير شفرات بعينها».

وتدمير هذه «الشفرات» يمكن أن يعني كسر النسق الثقافي المنغلق على الموروث، أو مواجهة العروض الرسمية المكرّسة لخطابات السلطة، أو رفض مقولات «الفن للفن» بمعزل عن المجتمع، أو ببساطة السعي إلى تجديد لغة الإخراج وفضاء العرض وأداء الممثل.

لقد ارتبطت حركة التجريب عالميًا بتطور العلوم الإنسانية، وظهور مجلات متخصصة، وتأسيس معاهد مسرحية أكاديمية، فتبلورت اتجاهات متنوّعة: المسرح الحر في فرنسا مع أندريه أنطوان (André Antoine) والاستديو في روسيا مع كونستانتين ستانسلافسكي (Konstantin Stanislavski ومسرح راينهارت في ألمانيا مع ماكس راينهارت (Max Reinhardt)، والمختبر المسرحي مع إدوار أوتان (Édouard Autant) في فرنسا، وجرزي جروتوفسكي (Jerzy Grotowski) في بولونيا. ومن أشكال التجريب أيضًا «المحترف»، وهو نوع من التجمع المغلق لا يشترط أن ينتهي بالعرض المسرحي، وقد ظهر في لبنان مع أنطوان ملتقى وريمون جبارة.

كما عرفت الحركة المسرحية العالمية تجارب أخرى مثل: مسرح الحجرة (Chamber Theatre)، ومسرح الجيب (Pocket Theatr والمسرح الحميمي (Intimate Theatre) وقد تأثرت بهذه الصيغ تجارب عربية مثل مسرح المائة كرسي، والمقهى، والفلاحين في مصر والأردن، التي ركّزت على العلاقة المباشرة مع جمهور محدود. هذه الأمثلة تؤكد أن التجريب ليس «موضة عابرة»، بل هو ثمرة فلسفة منفتحة على التجديد والاكتشاف.

وهنا يبرز جدل المصطلح: «التجريب في المسرح، أو المسرح التجريبي». فالأول (التجريب في المسرح) يحيل إلى ممارسة إبداعية مفتوحة داخل المسرح ذاته؛ حيث التجريب وسيلة للبحث والتجديد، ويظل مرنًا قابلا لأن يأخذ أشكالًا مختلفة. أما الثاني (المسرح التجريبي) فيشير إلى تصنيف مسرحي قائم بذاته، له ملامحه وجمالياته ومرجعياته النظرية. والجدل اليوم يدور حول: هل نحن أمام حركة متكاملة تستحق أن تسمى مسرحًا تجريبيًا أم أن ما يُقدَّم هو مجرد تجارب في المسرح تظل متفرقة ومتناثرة؟ هذا النقاش لا يتصل بالجانب الاصطلاحي وحده، بل يتصل بالهوية الثقافية للمسرح العربي، ومدى قدرته على بلورة مشروع تجريبي متكامل.

لقد استطاع مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي أن يوجّه بوصلة الفرق العربية، ويدفعها إلى تنويع أشكال العرض وتقليص سلطة الكلمة لصالح اللغة البصرية والحركية والصوتية، فصار المسرحيون العرب مضطرين إلى استنطاق وسائط جديدة لفهم أزمات الإنسان المعاصر. وفي هذا الإطار يمكن القول: إن التجريب لم يكن ترفًا، بل ضرورة أملتها التحولات الاجتماعية والفكرية والفنية.

ولم يكن المسرح العربي بمعزل عن هذه التحولات؛ فقد تأثر بها عدد من المخرجين والكتّاب من بلدان عربية مختلفة، مثل عبدالله السعداوي في البحرين، وحمد الرميحي في قطر، وبوسلهام الضيف في المغرب، وجواد الأسدي في العراق، وانتصار عبدالفتاح من مصر، وغيرهم ممّن انشغلوا بروح التجريب. وهو ما يذكّرنا بأن التجريب ليس خروجًا شكليًا عن المألوف، بل هو فلسفة ورؤية كونية وفنية تتقاطع مع أسئلة الحداثة، ومع ثورة الإعلام ووسائط التواصل والمنصات الرقمية.

أما في عمان فقد عرف المسرح مرحلتين بارزتين: الأولى مع النادي الأهلي في مسرحية «التعب» التي اعتمدت على القليل من الحوار واستلهام التراث الشعبي، والثانية مع مسارح الشباب في التسعينيات؛ حيث ظهرت محاولات لتجريب أشكال جديدة. واليوم، يتواصل التجريب في المسرح العماني عبر كسر بنية التأليف التقليدية، وتطوير الأداء التمثيلي، وتجديد السينوغرافيا والإخراج رغم ما يشوبه أحيانًا من استنساخ لتجارب الآخرين. ويمكن القول: إن أثر التجريب انعكس بشكل أوضح في الإخراج والتمثيل وتأثيث الفضاء أكثر من انعكاسه على النص المسرحي نفسه، الذي ظل تطوره رهين نضج الكتّاب بعيدًا عن الحركة المسرحية المباشرة.

إن التجريب بهذا المعنى هو محرّك مستمر لتطور المسرح لا يقتصر على الخروج من المألوف من أجل الخروج ذاته، بل يؤسس لرؤية كونية تحتفي بالإنسان وأسئلته الكبرى. وهو ثورة متجددة تتداخل فيها أسئلة الحداثة بالثورة الإعلامية ووسائط التواصل الافتراضي (فيسبوك، إكس، إنستجرام، الذكاء الاصطناعي...)، وتندمج فيها أسئلة الفن مع أسئلة الوجود. لذلك يظل التجريب سؤالًا يتجدد في كل زمن؛ لأنه ليس غاية نهائية، بل مسار مفتوح على الاحتمالات.

آمنة الربيع باحثة أكاديمية متخصصة فـي شؤون المسرح