كنا على شاطئ بحر العرب هذا الأسبوع، وأثناء بحثنا عن المكان الذي يرتاده الناس على شاطئ فنس، توقفنا لسؤال أطفال يغادرون لتوهم بقالة بجانب الطريق، كنا سنسهر بجانب البحر، قالوا لنا إن المكان الذي أشرنا إليه بأيدينا بأنه «دير»، لكننا لم نفهم ما الذي يعنيه ذلك قبل أن يستأنف ذلك الطفل الفطن أنه شاطئ صخري، ثم طلب منا الذهاب في الطريق المعاكس إلى شاطئ رأس الشجر؛ الجو جميل وبارد جدا كما عبر بنفسه. وأنا -التي أحب إيقاع الكلمات- أتوقف عند استخدامه رغم صغر سنه كلمة «منعطف». وبما أنني أكره وصم الأجيال الجديدة بالجهل -إذ إنهم ليسوا كذلك مطلقا، ولستُ في موقف لإعطائهم أي تزكية الآن؛ إذ لا أملك هذا الحق-؛ فلهم لغتهم وذكاؤهم وشجاعتهم التي تشبه زمنهم، إلا أن تلك الكلمة وقعت في قلبي مهيئة إياي للبحر هذا البحر الذي ما يفتأ يسحرنا. كان القمر مكتملا قبل موعد خسوفه في اليوم التالي، والسحب تتحرك عليه وبينه، وأنا أسفل تلك السماء التي تعتم وتنير، ورغم ما يكتبه عبدالله حبيب في أنساغ هذا الأسبوع في هذه الصفحة تماما من الجريدة: «صار يمكن قول هذا بخوف قليل جدا من البلل أو السياط: لم يعد هنالك بحر في المدينة، ولم تعد مسقط من أعمال الأزرق الكبير الواسع، ترى إلى أين نذهب؟ ربما إلى بحر العرب، أو إلى الثورة من يدري».

جلسنا في مجموعة كبيرة. معنا صديقة من غزة غادرتها بعد سبعة أشهر من الحرب. ما زالت عائلتها هناك. أما حطام وبقايا بيتها وكتبها وذكرياتها فاحترقت كأنها لم تكن. لا بد أن يثار هذا الموضوع. ورغم أنني أعرف أن الدافع خَير، إلا أن جهلنا بفلسطين -وهذا أمر مؤسف- لا بد أن يحشر أنفه في هذه المحاولات. قال شاب معنا: إنه فخور بمقاومة غزة، وإنه يشد على أيديهم، ويتمنى استمرار هذا القتال لأجلنا جميعا. جحظت عينا الصديقة، وأعرف أنها كظمت غيظها. لا يعرف هذا الشاب الذي يجلسُ مرتاحا في مكان رحب وهادئ يحتسي قهوته التي احتار في نوع بُنّها أن استمراره يعني موت عائلتها، وموتها هي نفسها. وهذا لا يعني مطلقا أنها ضد المقاومة، لكن تمنيها بذلك التفاخر مخزٍ خصوصا ربط ذلك «بنا»، بينما لا نفعل شيئا معوضين هزيمتنا المعنوية في حياتنا عبر اختطاف قتال مجموعة متفانية وثورتهم من أجل «المعنى» أمام هزيمتنا بعدم إيماننا بشيء بعد الآن. ولا أقصد أبدا فلسطين، بل عموم «المعنوي/ الحسي»؛ فلنقل إذن: إن غزة نحن، وإننا من أجل «الأرض» و«الكرامة» هناك!!! لم يتوقف ذلك الشاب عند ذلك فحسب، تخيل صديقي القارئ أنه قال بملء الفم: كلنا نقاوم أيضا. الحياة بحد ذاتها مقاومة.

افتح أي وسيلة تواصل اجتماعي الآن. اجلس مع أي مجموعة؛ لن تسمع سوى فضل شاكر وابنه محمد شاكر في أغنيتهما الجديدة: «كيفك عفراقي»، ثم بقية ألبوم فضل الذي يعود لنا بعد عشر سنوات تقريبا من غيابه، واشتراكه مع فصيل إسلامي مسلح في سوريا معلنا رغبته في الانتصار على الظلم. ما زالت لدى فضل قضايا في المحاكم عليه التعامل معها، لكنه في منفاه يغنّي ويحصل على ملايين الاستماعات في يوم واحد، وهذه ليست مبالغة. لكن مع الاهتمام الواسع بأغانيه الرائعة فعلا تظهر على السطح استقطابات المشهد الفني اللبناني الذي يجر بقية العالم العربي معه. عندما يصرح الفنان اللبناني راغب علامة عند سؤاله عن فضل بأن على هذا الأخير تسليم نفسه فورا للجيش اللبناني؛ لجزائه على خياره ذاك؛ تنفجر فقاعة من يؤيدون ويكرهون الطرفين مستدعين ابنيهما لؤي راغب علامة، ومحمد فضل شاكر: الأول بذيء منحرف، والثاني محترم مهذب و«مربى سبع مرات». ورغم شوقي لصوت فضل الرائع الذي أحببته منذ طفولتي المبكرة في أغاني «يا غايب» و«معقول أنساك» و«مأثر فيّ» وأشهر «دويتو» في العالم العربي متى ما شارك أحدا الغناء مع نوال في «أحاول» ومع شيرين «العام الجديد» ومع يارا «خدني معك» وكل هذه الأغاني التي أنتجت عندما لم أكن بعد قد تخرجت من المدرسة، لكن الانتقام من خيارات لؤي الشخصية وطريقة حياته وتعبيره عنها والتي يرفضها العالم العربي لما يقول إن فيها اختراقا لـ«تقاليده» هو أرخص ما يمكن فعله، وأمام محمد شاكر الذي يُجسد الابن المطيع الملتزم النمطي الذي يُصور أباه يستريح نائما أثناء العمل على قدميه مهينا للفن ولفضل الذي ندّعي أن حبنا له قادم من موهبته الفذة التي لم تتكرر حتى الآن. لكن التعامل مع فضل بهذه الطريقة أيضا يجعلني أكبر فيما أننا لم ننجر تماما وراء «ثقافة الإلغاء» القادمة من أمريكا الليبرالية القذرة.

أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية