لم أكن في بداية تسعينيّات القرن الماضي أعرف شيْئًا عن قاسم حدّاد ولا عن شعره ولا عن عموم أدبه إلى أن وجدْنا في برنامج السنة الثانية أدب «روايةً» في برنامجنا الدراسي تحمل اسمين على غير المعهود، وهما: قاسم حدّاد وأمين صالح. وقد أُخذنا بهذا العمل الذي أدركنا أثناء دراستنا له أنّه «نصّ» طليق حرّ لا ينتمي بالضرورة إلى جنس الرواية، وأنّ كاتبيْ العمل من مملكة البحرين، ولم يكن في معهودنا أن ندرس أعمالاً من خليج العرب -خاصّة في مادّة الرواية-، وإنّما الغالب على دراستنا الرواية المشرقيّة في محلّ أوّل، والرواية التونسيّة في محلّ ثان. الكاتبان غير معروفين والكتاب مجهول تمامًا، ولم تكن تقنية النات دارجة في ذلك الوقت، وإنّما ما زلنا نذهب إلى المكتبات العامّة وإلى مكتبات الكليّات، ونبحث في الفهارس عن الكتب، فلم نجد ظلّا للكتاب، وإنّما بمجهود شخصيّ وفّر أستاذ المادّة الكتاب في المكتبة، فقرأنا نصًّا بديعًا أُخذنا أوَّلاً بلغته وأُخذنا ثانيا بجرأته ودخوله في التجريب، واعتماد الكتابة التي تحتفي باللّغة وتجعلها قصْدًا في ذاتها، ونحن آنذاك قادمون من ثانويّة عامّة قد تأثّرنا فيها بشكل مبالغ فيه بكتابة في التجريب اللغوي والوجودي هي كتابة محمود المسعود؛ ولذلك كنّا على استعداد تامٍّ لتلقّي نصّ الجواشن، والتفاعل معه والتأثّر به.
من هذه الأرضيّة تعرّفت على أمين صالح الذي أصبح له أثرٌ وفعلٌ في المكوّن الثقافيّ البحرينيّ، وعلى قاسم حدّاد الشاعر والمبدع الذي تجاوز انتماءه البحريني في دخوله بقوّة في تحديث القصيدة العربيّة. وأدركتُ عنه بعض الخصال التي شدّتني إلى شعره، منها أنَّه داخلٌ في حركة التحديث، وأنّه مازج بين القديم والحديث، وأنّ رأسه في الحقّ حديد. تعمّقت معرفتي من بعد ذلك مرحليّا بقاسم حدّاد من خلال نصوصه المتنوّعة المجنَّسة وغير المجنّسة في ظلّ ثابتٍ قائم على جماليّة تحتفي باللّغة، وتعيد بناءها بشكل ضاربٍ للعلاقة بين الدلّ والمدلول. وتعرّفتُ على شاعر يرتحل بالشعر إلى مظان متعددة يبحث عن نصٍّ لم يُكتب بعد؛ يكتب شعر التفعيلة، ويُمازج بين الشعر والنثر، ويُداخل بين الشعر والقصص (كما في نصّ الجواشن)، ويجمع بين الشعر والفنّ التشكيلي (كما في أخبار مجنون ليلى، ومشاركته الفنّان العراقي ضياء العزاوي، وكتاب المستحيل الأزرق مع المصور صالح العزاز).
عرفتُ شاعرًا له الشعر أثرٌ وميسم وله في النثر رؤيةٌ، وله في الجمع بينهما سبقٌ وإيمانٌ راسخ. وبالرغم من عدم إيماني بقصيدة نثر، إلاّ أنّي أستطيب بعضًا من الكتابات التي تُنْعَتُ بهذا النعت، وأعدّها نثْرًا. وفي تراثنا عديد المظاهر الأدبيّة التي تحمل النثر إلى مواقع شعريّة يُلامسها ولا يكون كونَها. وهذا حديثٌ طويلٌ ليس هذا مجاله، غير أنّي من بين نصوص النثر الشعريّة الحديثة التي أهنأ بها، وأستلذّ قراءتها نصوص قاسم حدّاد. وليس لي أن أفيض القول في مختلف تجارب قاسم حدّاد التي تنوّعت شعرًا جامعًا بين كتابة التفعيلة وكتابة قصيدة النثر، وليس لي أن أتوسّع في مواقفه الإنسانيّة وفي القضايا التي يحملها في أدبه، وليس لي أيضًا أن أبين مواقفه من الأدب وتصوّره له، وليس لي أن أتحدّث عن تقلّب تجارب النثر في كتابته، وإنّما لي أن أشير إلى رغبة ظاهرة في بناء «النصّ الثالث» -البعد الثالث للنصّ- بعيدًا عن التفرّد أو عن التنازع الثنائيّ؛ حمل الشعر إلى منطقة التفاعل الحقّ مع الفنون؛ أن يخرج الشعر من عزلته، من توحّده، أن يكون رُوحًا تُوجَد في الرواية وفي المقالة وفي الموسيقى (تجارب مع مرسيل خليفة ومع خالد الشيخ) وفي المسرح (تجارب مع المسرحي البحريني عبداللّه يوسف)، وفي الفنون التشكيليّة وفي الصورة، يُحوّل الشعر إلى روح تتلبّس مختلف الأجساد، إلى معنى روحيّ يتوزّع بين الفنون.
شدّتني في تجربة قاسم حدّاد صلته باللّغة الشعريّة التي لم يُبْقها في حيّز الشعر، بل ارتحل بها، وعبّر بواسطتها عن هموم المثقّف المألوفة المعهودة: الحريّة، الغربة، الوجود، الموت، الحياة، وحوَّلها إلى عالم ممكنٍ لحياة الفنون. علاقة قاسم حدّاد باللّغة ليست علاقة وظيفيّة ولا علاقة أداتيّة، وإنّما هي علاقة وجوديّة. هي علاقةُ كونٍ وتحقُّقٍ؛ بها يكون وبها يرى أسلافه من «المحرق» التي صنعت وجوده يرى «طرفة بن العبدة» (وهو قاصد ذلك)؛ يراه عنصرا جامعًا بين الانتساب إلى القبيلة والإفراد منها، بين الانتماء إلى الأشراف ومخالطة الصعاليك، بين التعبير عن الصحراء والاستعارة من البحر، من المحرق يرى مجنون بني عامر، وليلاه، يدعوهما ويُنطقهما وينطق على لسانيهما، ويقول: سأقول عن ليلى/عن المسافر عندما يبكي طويلا/عن السحر اللذيذ إذا تجلّى في كلام عيونها/عن نعمةٍ تفضي لأن أقضي رحيلا/عن مراياها موزعةً تخالج شهوة الفتيان/عن ميزانها مشبوقةً/عن عدلها في الظلم/ عن سفري مع الهذيان/عن جنيةٍ في الأنس تنـتخب القتيلا/ليلاي لو يدها علي/ولو يدي منذورة تهب الرسولا/سأقول عنها ما يقال عن الجنون إذا جننت/ولي عذر إذا بالغت في موتي قليلا»، ليُحدث وجودًا ثالثًا بين حداثته التي يُريدُها وماضيه الذي يتخيّر عناصره ورموزه ودوالّه، وجود لا يُقيم قطيعة مع لغة السّلف ولا مع معانيهم ولا مع رمزيّتهم، وإنّما هو حوارٌ دائم، وعشق قائم، وعالمٌ يتكوّر في لغته لا مرجع له إلّا ما وقع في الأنفس من أهواء وأمزجة، وهو ما بان في «سيرة النصّ» من وعي جامع بين التحديث واستدعاء التراث. لستُ بالمؤمنين بإفراد أدبٍ للخليج -وإن كنت أستعمل المصطلح-؛ لأنَّ الأدب العربيّ في ذهني هو أدب واحدٌ تختلف البيئة المحدّدة له، ولا تختلف مراجعه وأصوله التي منها نمتح. الشخصيّات التي استدعاها قاسم حدّاد من التراث ليحاورها ويتحاور معها مثل المجنون أو طرفة أو الحلاّج ليست ملكًا له؛ ولذلك تجد أصداء في أذهان المتلقّين وتفاعلاً. قلتُ هذا؛ لأنّي أنفر أن يُنعَتَ قاسم حدّاد أو غيره بالشاعر الخليجي، وأفضّل أن يكون بحرينيّا أو عربيّا، وأرفض أن يُرَدَّ إلى مصطلح أنفره واستخدمه العديد من النقّاد، وهو القول بـ«ثقافة الصحراء» وسْمًا للمرجعيّة التي يأتي منها قاسم حدّاد، وهو وسْم ضالٌّ مضلٌّ، والأقوم أن نتحدّث عن أثر بيئة الصحراء؛ لأنّ ثقافة الصحراء لا تخصّ أيضًا منطقة الخليج، كما أنّ ثقافة المدن لا تخصّ منطقة الشرق.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي