غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
في ظهيرة يوم مثقل بالقصف ورائحة البارود، اجتمع المئات من سكان مدينة غزة في ساحة السرايا، ليعلنوا موقفهم الواضح ضد أوامر الإخلاء التي أصدرها جيش الاحتلال الإسرائيلي. حملوا أجسادهم المغطاة بأكفان بيضاء، في مشهد رمزي أطلقوا عليه «تظاهرة أكفان الموت»، ليوصلوا رسالة للعالم مفادها أن الغزيين يفضلون الموت في أرضهم على الحياة في المنافي. كانت اللافتات التي ارتفعت فوق الأكفان تحمل شعارات قاطعة: «لن نُقتلع من أرضنا»، «لن نغادر»، و«غزة قوية».
من قلب المسيرة، تعالت الهتافات لتخترق جدار الصمت الدولي، وتعلن أن غزة ترفض أن تتحول إلى ساحة تفريغ بشري. لم تكن الأكفان مجرد رمزية حزينة، بل كانت تعبيرًا عن إصرارٍ عنيد، عن عناقٍ بين الحياة والموت، ورسالة واضحة بأن الموت في الوطن أشرف من حياة التشرد بعيدًا عنه.
وبين جموع المشاركين، وقف الأطفال بجوار الكبار، يلوحون بأيديهم الصغيرة إلى الكاميرات وإلى العالم الغائب، بينما يرفعون شعارات الصمود. مشهد لا يمكن للعالم أن يراه ولا يتحرك أمامه، لكن غزة أرادت أن تُسجَّل كلمتها، ولو على لحن الرصاص.
نداء العشائر
رئيس الهيئة العليا لشؤون العشائر في غزة، أبو سلمان المغني، كان أحد أبرز الداعين للمسيرة. في كلمته، أكد أن الفعالية جاءت «لرفض خطط التهجير، والعمل على زيادة الضغط على المجتمع الدولي للتدخل وحماية المدنيين».
وشدد خلال حديثه لـ«عُمان» على أن الوجود في الشوارع هو رد طبيعي على قرارات الاحتلال بالإخلاء، وعلى أن غزة لن تكون ورقة بيد أي طرف.
المغني أوضح أن مشاركة المواطنين بالآلاف، وهم يرتدون الأكفان، تحمل رسائل عدة؛ أولها أن غزة لا تُفرغ بسهولة، وثانيها أن شعبها لن يقبل بأي حلول تقوم على اقتلاع الإنسان من أرضه. أضاف أن الاحتلال يريد تحويل القطاع إلى بقعة أشباح، لكن الغزيين يصرون على البقاء، مهما كان الثمن.
وشدد المغني على أن العشائر الفلسطينية ستظل خط الدفاع الاجتماعي الأول في وجه محاولات التفتيت. ودعا الدول العربية إلى عدم الرضوخ للضغوط السياسية، قائلاً: «اليوم هو اختبار أخلاقي للعالم، فإما أن يقف مع الحق الفلسطيني أو أن يترك غزة وحدها في مواجهة آلة الحرب».
أوامر الاحتلال
في السياق الميداني، جاء أمر الإخلاء الجديد الذي أصدره جيش الاحتلال الإسرائيلي ليزيد من غضب الناس. فقد أعلن المتحدث العسكري أفيخاي أدرعي أن على سكان مدينة غزة، وخاصة في أحيائها القديمة ومنطقة التفاح شرقًا وحتى البحر غربًا، إخلاء منازلهم فورًا عبر محور الرشيد باتجاه منطقة المواصي في خان يونس جنوبًا، والتي وصفها بأنها «منطقة إنسانية».
لكن الغزيين الذين ذاقوا مرارة النزوح مرات عديدة، يدركون أن هذه «المنطقة الإنسانية» ليست سوى محطة جديدة للمعاناة، حيث لا مأوى ولا طعام ولا أمان. القصف المتواصل على مدينة غزة خلال الساعات الأخيرة أدى إلى استشهاد وإصابة عشرات المدنيين، ما جعل الناس يعتبرون الإخلاء شكلاً من أشكال التهجير القسري، تحت النار والدمار.
إصرار الجيش الإسرائيلي على المضي في عملياته العسكرية بقوة، كما صرح أدرعي، عزز الشعور لدى الناس أن الهدف النهائي هو تفريغ المدينة، لا «محاربة حماس» كما يزعم. وهو ما جعل تظاهرة الأكفان تبدو وكأنها إجابة مباشرة على هذا المشروع: «نموت ولا نرحل».
أكفان الحياة
أحد القائمين على تنظيم التظاهرة، ويدعى حسام دلول، قال لـ«عُمان» «اليوم هو يوم يسمع فيه العالم الإرادة الفلسطينية الغزية، بأن غزة تلبس أكفانها من أجل أن توصل للعالم أنها تحب الحياة. نحن نسعى لأن نعيش بإنسانية وكرامة، لكن هذا العدو الغاصب يأبى إلا أن يقتل الرجال والأطفال والنساء».
دلول أضاف: «لبسنا الأكفان حتى يرى العالم أن إسرائيل لا تترك لنا إلا خيار الموت، وأننا نقابلها بالصمود. نحن نقول بوضوح: نموت ولا نرحل. فليسجل العالم أن غزة ما زالت هنا، وأنها لن تُقتلع من أرضها».
تصريحاته حملت مزيجًا من الغضب والفخر، إذ أشار إلى أن الرسالة موجهة مباشرة إلى رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو وإلى كل من صمت أمام المذبحة المستمرة في غزة. وأكد أن التظاهرة ليست فقط تعبيرًا عن الحزن، بل عن قوة الإرادة، وعن رغبة جماعية في الصمود حتى الرمق الأخير.
صوت الغزيين
في خضم الهتافات، تحدث الشاب محمود الزين، أحد المشاركين في التظاهرة، قائلاً: «رسالتنا في لبس الأكفان هي فضح ما يحدث بحقنا من قتل ومن حروب. نحن بلد منزوعة السلاح، لا نملك شيئًا، ويقتلنا الاحتلال بلا رحمة».
وأضاف لـ«عُمان»: «لسنا راحلين. نحن في بلدنا مسالمون ولن نرحل، وإذا كتب علينا الموت فهو مكتوب علينا هنا في غزة. نريد أن يرى العالم أننا ظلمنا، وأن التهديدات الإسرائيلية المستمرة لا تعني سوى محاولة جديدة لاقتلاعنا».
محمود أكد أن الهتاف الأبرز في التظاهرة كان «مش طالعين»، وهو ما يعكس إجماع الناس على رفض كل أشكال التهجير. وأوضح أن المشهد بأكمله كان موجهًا إلى المجتمع الدولي الذي ما زال يتجاهل أصوات الفلسطينيين رغم وضوح رسالتهم.
رسالة الصمود
من بين المشاركين، برز صوت الشاب علاء الحلاق، الذي قال: «غزة ستكون بوابة للصمود والتحدي. على إسرائيل أن توقف عدوانها، وعلى العالم أن يتحرر من صمته، ليقف أمام جرائم الحرب الإسرائيلية».
وتابع قائلاً لـ«عُمان»: «جئنا إلى هنا لنقول عبارة واحدة: لا للنزوح.. حتى لو طلعت الروح. نحن صامدون وسنظل هنا حتى آخر نفس. غزة القلعة الأخيرة، وبإذن الله ستكون مقبرة الأعداء».
علاء دعا العالم إلى التدخل العاجل لوقف المجازر بحق المدنيين، معتبرًا أن استمرار الحرب يهدد ليس فقط غزة، بل الاستقرار في المنطقة بأكملها. وأكد أن رسالتهم الأخيرة للعالم هي: «مش طالعين لو طلعت روحنا»، في إصرار يوازي قوة الدمار الذي يتعرضون له.
جذور البقاء
وفي ركن آخر من الساحة، تحدث الحاج سالم قنن، وهو رجل في الستينات من عمره: «نحن شعب نحب الحياة. نحن صامدون. نحن شعب لا يترك أرضه، ولن نترك شمال غزة مهما حصل».
أضاف: «نحن نحب أن نعيش بسلام، لكننا لن نتخلى عن غزة. رسالتنا للعالم أننا باقون هنا كبقاء شجر الزيتون، وكبقاء جبلي النار والمنطار. الاحتلال يقول إن الجنوب آمن، لكن لا أمان في غزة كلها. القصف يلاحقنا في كل مكان».
قنن شدد على أن خيارهم الوحيد هو البقاء، وأن كل حديث عن «مناطق إنسانية» ليس سوى ذر للرماد في العيون. وأوضح أن «كل فرد من أبناء غزة يعرف أن ترك أرضه يعني خسارتها للأبد، وهذا ما يرفضونه جملة وتفصيلا».