لم يكن أفلاطون مجنونا ً عندما سعى في جمهوريته لخلق واقع سياسي واجتماعي متُخيل، عوضا ً عن واقعه الذي كان يعيشه، بل كان ينتمي بشكلٍ سابق، لما أصبح يطلق عليه المؤرخ الهولندي روتجر بريجمان Rutger Bregman لاحقا ً "باليوتوبيا الواقعية"، وهي تلك الأحلام والأمنيات والتطلعات البشرية لتحويل فكرة ما، وهي في الأغلب فكرة اجتماعية أو سياسية إلى واقع يعيشه المجتمع، تساهم بطريقة أو بأخرى في تغيير الواقع المجتمعي نحو واقع مثالي، حالم، لكنه ممكن التنفيذ، وقابل للتطوير.
كما لم يكن الشعراء والفنانين والفلاسفة، على اختلاف جنسياتهم وخلفياتهم، منفصلين عن الواقع بشكل ٍ كامل، بل كانوا بطريقة أو بأخرى يمارسون فضيلة الأحلام التي تعُد الوقود الضروري، والشعلة التي لا تنطفئ في سبيل التغيير وصياغة عالم جديد. وينطبق ذلك على الفارابي في آراء أهل مدينته الفاضلة، والتي يرى فيها بأنه من الممكن إنشاء مدينة فاضلة غايتها السعادة والعدل، تقوم على إتفاق الإرادات المختلفة للوصول لآراء لا تضاد فيها. غير أنه من الواضح أن الإنجليزي توماس مور (1478–1535م) صاحب مفردة اليوتوبيا كان الأكثر جرأة على البوح بأفكاره، والذهاب بعيدا ً في أحلامه، بالرغم من محدوديتها آنذاك، لكنها كانت العلامة الفارقة على قدرة الخيال والأحلام والشغف على التحقق، والتنفيذ، والتغيير، بل وخلق حياة أفضل، مليئة بالمُثل العليا التي تراود المرء بين الفينة والأخرى.
لكن اليوتوبيا لها تاريخ بشري طويل، مفعم بالصراعات والدماء والحروب بين التوجهات التي ترغب في بقاء الأشياء والوقائع كما هي، من جهة، وبين تلك الرغبات التي تسعى لتغيير الواقع في مسار ٍ جديد، لم يكن يخطر على بال التوجه المحافظ، من الجهة الأخرى، وفي ذلك سردية متداخلة بين السياسة والاقتصاد والمجتمع، من الضروري التطرق إليها قبل الوصول لتجلياتها الحالية المتمثلة في الصناعات الإبداعية Creatives Industries، والتي يقودها الخيال والذكاء الإصطناعي بسرعة فائقة.
الأيديولوجيا واليوتوبيا "سطوة الخيال"
في حركة التاريخ وماديته وتفاعلاته، نوقشت العلاقة المتداخلة والمعقدة بين الأيديولوجيا واليوتوبيا لدى الكثير من المفكرين والفلاسفة، وبتخصيص أكبر لموضعة المدن الفاضلة، والخروج بها من الرغبات والتخيلات إلى الواقع اليومي المعاش، لذلك كانت الهجرة الروحية من الوطن الأم، للوطن البديل المتخيل عاملا ً من عوامل تحقيق اليوتوبيا في بعض المراحل، كما استتبع ذلك لدى بعضهم لتحويل مجتمعاتهم بأدواتهم المتوفرة لديهم، للقيام بهذا التغيير، في أحيان ٍ أخرى. غير أنه في الحالتين، كانت الأحلام تطاردهم، وتستولي على أفكارهم، ورؤاهم، ليل نهار، لذلك نجد أن التجارب التاريخية في إنشاء مجتمعات جديدة، عنوانه الأبرز الهجرة من المكان، والزمان، والانعتاق من قيود الواقع، وإلتزاماته الاجتماعية المختلفة، والتوجه إلى عالم لم يوجد بعد إلا في مخيلتهم.
بالإضافة لذلك، كان الفشل الواقعي وعدم الرضا عن عناصره، ومكوناته، المحفز الأكبر على خلق هذه العوالم، غير أن هذا التغيير لم يكن بلا مقاومة، وبدون رغبة في السير ببطء نحو المدينة الفاضلة، خوفا ً من خسارة المكتسبات المتوفرة، مهما كانت بسيطة ومتواضعة. لذلك نجد أن مقاومة التغيير تتناسب مع طرديا ً مع موضعة العالم المتخيل على أرض الواقع، ولا يمكن أن يحدث ذلك بدون يوتوبيا تُخرج الأفراد من الأيديولوجيا التي يعتنقونها، أو تحجب عنهم الواقع، أو تجعلهم ينظرون للواقع بالمقلوب، كما ذهب لذلك بول ريكور في تحليلاته الخصبة "حول العلاقة بين الأيديولوجيا واليوتوبيا" في محاضراته عام 1975م في شيكاغو بنفس العنوان. ففي خضم سيطرة الأيديولوجيات التي تتعدد تعريفاتها، وحدودها المفاهيمية، تبعا ً للسياق التاريخي، وتأثيرها على تفكير أفراد المجتمع التي تنعكس بطرق متعددة على الفعل البشري الفردي والجماعي على حد ٍ سواء، يصبح نقدها ضروريا ً للخروج منها، وتأسيس وعي آخر، يعتمد على عناصر أخرى مختلفة جذريا ً عن العناصر السابقة.
وبالعودة لكارل ماركس في الأيديولوجيا الألمانية المكتوب عام 1846م، والمنشور لأول مرة في موسكو عام 1932م، وهو النص الإنتقالي في تفكير ماركس، نجد أن الأيديولوجيا بحسب التعريف الماركسي، كما يورده بول ريكور في كتابه المذكور سابقا ً، "تشمل كل أشكال الإنتاج غير الاقتصادية تماماً، مثل القانون والدولة والدين والفلسفة"، وهذا يقودنا إلى مفهوم آخر يساهم في بناء هذه التشكيلة للأيديولوجيا التي أطلق عليها ماركس في مراحل تفكيره الأولى بقوى الإنتاج، بينما يستبدله لاحقا ً بمفهوم علاقات الإنتاج، والذي يشمل كيف ينُتج البشر أشكال حياتهم الأيديولوجية المختلفة بناء ً على علاقات الإنتاج المختلفة، بما فيها الأيديولوجيا التي ستتغير لاحقا ً وتحديدا ً مع ألتوسير من التضاد مع الواقع إلى التضاد مع العلم، وبحسبه فإن كل ما لا يمكن التعبير عنه علميا ً يقال عن إنه أيديولوجيا.
ولكن كيف تُصنع الأيديولوجيا؟ يرى ألتوسير في كتابه "لينين والفلسفة" المنشور عام 1971م، بأن الأيديولوجيا هي "إعادة إنتاج النظام، وتدريب الأفراد على القواعد التي تحكم النظام"، وهذا يخاطب في البشر البنية الرمزية للأفراد المتمثلة في الجانب اللغوي، والقانوني، والمعرفي، والثقافي بشكل ٍ عام، أي لذلك الجانب غير المادي أيضا ً، الذي تُعد المخيلة بما فيها من رموز جانبا ً مركزيا ً. من هنا، تمتلك الأيديولوجيا الإمكانيات الهائلة على خلق واقع رمزي، مواز ٍ للواقع الوجودي الذي يتحرك ويعيش فيه الفرد، وهذا ما يضعنا أمام الرابط بين الأيديولوجيا واليوتوبيا التي من الممكن القول بأنهما يمثلان حالة من الوعي الزائف بالواقع، ففي حين أن الأولى مشدودة للكثير من الآراء والمواقف التي تقدم وعيا ً لا يتناسب مع الواقع من جهة، ولا تقدم خطة أو برنامجا ً للتغيير، فإن الثانية تتميز بالخصوبة والغنى والقدرة على التخيل، والقدرة على استمرارية روح المعارضة والاختلاف مع الواقع وعدم التطابق معه، كما يرى كارل مانهايم (1893–1947م) في هذا السياق. لكن هذه المحاولات تخُفي خلفها مع مرور الوقت الخوف من التطابق بين الطموحات والواقع، وتنفيذ كل الأحلام على أرض الواقع، وهذا يجعل العالم يبدو ساكنا ً، لأنه سيفقد المسافة بين المُثل وتحقيقها، ومن هنا لن يكون هناك مشروع من الممكن التجرؤ على التفكير فيه، والمغامرة لأجل تحقيقه، والصراع للقيام به.
توفر النقاشات والمساهمات السابقة أرضية مثالية، للنظر في حال العلوم في الوقت الحالي، وقدرتها على تهيئة الأرضية المناسبة لتحقيق هذه الأحلام، والإبداع، وتحويلها إلى واقع وليس أيديولوجيا أو يوتوبيا فقط، بل تسهم وبشكل ٍ مباشر في تغيير حياة الأفراد، ليس عن طريق تسهيل تعاملاتهم اليومية، بل ومستويات الدخل، والقدرة على تحقيق الذات، ووضعها في نطاق القدرة على صناعة العالم، وهذا ما يتجسد بشكل ٍ كبير في الصناعات الإبداعية التي أصبحت أمرا ً واقعا ً، نلمسه في حياتنا اليومية، وهذا يجعلنا نفكر في قوة المعرفة، والأفكار، والرموز، والجوانب الثقافية، كالموسيقى والفنون المختلفة، وقدرتها الملموسة على تغيير الواقع بالتعاضد مع التقنيات الحديثة والمتجددة باستمرار، وليس حصرها فقط في الترفيه، وتزجية الوقت، أو التثاقف بين الشعوب. لذلك ستتحدث الفقرة القادمة عن الاقتصاد الذي يقوم على الخيال والرقائق والمنتجات الناعمة النانونية متناهية الصغر، والآفاق الإبداعية التي يفتتحها أمام البشر بما فيها وربما أهمها تحويل الجوانب الإبداعية لنمط اقتصادي غير تقليدي، يضع المخيلة كنقطة أساسية في قاطرة التغيير.
الاقتصاد من الحاجة إلى الخيال
لم تعد مقولة الحاجة أم الإختراع صامدة أمام التغيرات التي طالت كل المفاهيم التقليدية، بما فيها المفاهيم الاقتصادية نفسها، بل أصبح الإختراع وبالتالي الصناعات أمام حقبة ذهبية، تتداخل فيها التخصصات، وتتداخل فيها أيضا ً المنتجات التي تقود تحولات عالمية هائلة، غير أن هذه المنتجات تتسم بجانبها الإبداعي الناعم، الذي يتسلل إلى البشر عن طريق القوى الناعمة المختلفة، بما فيها الجانب الثقافي الذي يتحول من جانب ثابت، ومتوارث، إلى جانب ٍ إبتكاري، يحلق في سماوات الخيال، مليء بالألوان والموسيقى، يساهم في تغيير تصورات الأفراد عن ثقافتهم والثقافات الأخرى من جهة، ويسهم بطريقة أخرى في انفتاح الأفراد على التعدد والإختلاف وبالتالي في تغيير أنماط المعيشة من جهة أخرى.
وبالتركيز على الجانب الواقعي، نجد أن أنماط المعيشة بما فيها وأهمها المدن قد تأثرت بشبكة هائلة من التحولات التي طالت مناحي الحياة المختلفة. فمن نافل القول، بأن الأفراد في العالم المعاصر يعيشون في العواصم والمدن الكبيرة، التي أصبحت لا توفر فقط فرص العمل، بل أيضا ً نمطا ً مغايرا ً لبناء شبكة من العلاقات الاجتماعية المتعددة، والمنفتحة، بما فيها الممارسات الصغيرة والكبيرة على حد ٍ سواء.
وبلغة الأرقام، نجد أن هذه الصناعات وتحديدا ً تلك المتعلقة بالترفيه والأدب والإبداع تواصل صعودها بطرق مختلفة، بدءا ً بالمداخيل التي تضخها في موازنات المؤسسات المختلفة، بما فيها الصغيرة والكبيرة على حدٍ سواء، وعدد الموظفين المتزايد الذين يعملون ويتنقلون بين وظائف مغايرة عن أنماط العمل التقليدية السابقة، والتي شهدت أيضا ً زحزحة هيكيلية في نوعية هذه الوظائف الصلبة والشاقة إن جاز التعبير، إلى العمل الناعم الذي يركز ويستخدم الجانب المرئي والحسي والعاطفي والرقمي وغيرها من الوسائل التي تواصل بشكل ٍ فائق السرعة في التغير والتحول. وهذا التحول شمل بطبيعة الحال المنتجات التي تخرجها هذه الصناعات، والتي جعلتها متداخلة لحدود انعدام الفوارق بين الخيالي والواقعي، والتي شملت الأفلام، والتطبيقات المختلفة، التي تشير إلى إزدهار الخيال كما تجلى ذلك في الأفلام والأدب وحتى في تشكيل وبناء المدن التي كما سبق القول التي تُعد الحاضنة الأكبر لعدد كبير من المواطنين في العالم.
ثمة علاقة وثيقة بين اليوتوبيا والمدن الفاضلة التي طُرحت في العصور القديمة، بطرق مختلفة، ولغايات متعددة، وبين الصناعات الإبداعية الحالية التي نراها ونلمسها اليوم في حياتنا المعاصرة، ففي الحالتين يسعى المرء بطرق إنتاجية مختلفة، لتغيير واقعه، ولكن في هذه النسخة الحديثة من التغيير، يعمد المرء عن طريق الأدوات الناعمة المتوفرة لوضعها موضع التنفيذ مباشرة، ولم يعد الجانب النظري يأخذ الحيز الكبير في تنفيذها، بل أصبحت الوقائع مندمجة مع الحقائق التي نراها ونلمسها بشكل ٍ كبير، الأمر الذي يعني في هذا السياق، بأن الاقتصاد المعاصر لا تقوده الحاجات بشكل رئيس، بل اصبح الإبداع والترفيه ينافس الحاجات في عقر دارها الاقتصادي الذي تأسس على اقتصاد الندرة.