آن الأوان للتفكير جديا في مجالات الاقتصاد الأخرى التي أصبحت قوة اقتصادية لا يستهان بها تتصاعد يوما بعد يوم مع تناقص الموارد الطبيعية بسبب تعظيم الاستفادة منها وتحقيق النمو والرفاه الاقتصادي، إننا في عصر أصبحت وفرة البيانات تشكّل اقتصادا رقميا وأصبح الخيال والإبداع جزءًا من قوة الاقتصادات وتطورها ونموّها، إنها قوة اقتصادية تتشكل بمزيج من وفرة البيانات وخيالات الإبداع وموارد طبيعية وإن كانت مهددة بالنضوب على المدى البعيد جدا، لسنا في زمن آدم سميث الذي قاس حينها حجم الثروة بحجم الموارد الطبيعية وتنوّعها، نحن الآن في عالم يتسارع فيه النمو الاقتصادي بوفرة في البيانات وبخيال إبداعي نتج عنه صناعات إبداعية لا موارد طبيعية تهدد النمو الاقتصادي واستدامته.
وقد أصبح الإبداع المورد الأكثر قيمة عندما تتحول الأفكار الإبداعية إلى قيمة اقتصادية تسهم في ازدهار المجتمعات ونمو اقتصاداتها؛ خصوصا إذا كان الإبداع ركيزة أساسية في الصناعات الإبداعية التي تحرك أدوات الاقتصاد الإبداعي، لأنها ببساطة تسهم في الناتج المحلي الإجمالي وتوفّر الوظائف وتعطي أفكارا خارج الصندوق تساعد على ابتكار نماذج جديدة من السلع والخدمات الجاذبة للجمهور، فلم تعد الصناعات الإبداعية ذوقا عابر ولم يعد الإبداع محصورا على وضع لوحة ذات طابع إبداعي وثقافي على جدران المتاحف، بل أصولا اقتصادية يستفاد منها في التنمية الاقتصادية للبلدان، وهنا نطرح تساؤلا عن أسباب غياب مؤشر مساهمة الاقتصاد الإبداعي في الاقتصاد الوطني؟ وعن الخطط والاستراتيجيات التي تتبناها وزارة الاقتصاد تحديدا للاستفادة من الاقتصاد الإبداعي كمدخل فاعل في جهود التنويع الاقتصادي واستشراف المستقبل للمجالات الاقتصادية التي بدأت تشكّل قوة اقتصادية لبعض اقتصادات بلدان العالم؟
إنّ ما يميّز الاقتصاد الإبداعي عن غيرة من أنواع الاقتصاد الأخرى، أنه قائم على الإبداع والابتكار والخيال، وبالتالي أساس المورد هو فكر الشخص وإبداعه وخيالاته لا موارد ذات تكلفة، بمعنى آخر فكرو الاقتصاد الإبداعي قائمة على Intangible raw material وأيضا هو لا يختزل في التصميم والأعمال الرقمية، أيضا هو نوع من صناعة السينما والموسيقى والألعاب الإلكترونية، فلم تعد المهارات الإبداعية تختزل في نطاق الهوايات في إنتاج المحتوى الإبداعي، بل أصولا اقتصادية تجني منها الدول مليارات الدولارات سنويا، ما دفع الاقتصاد الإبداعي أن يتحوّل قوة اقتصادية تساهم بنحو 3% في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بقيمة تقترب من 2.3 تريليون دولار ومساهما بفرص وظيفية تتجاوز 50 مليون فرصة عمل؛ متجاوزا عديد القطاعات الاقتصادية التقليدية، حقيقة من خلال بحثي عن أهمية الاقتصاد الإبداعي أعتقد أنّ الاقتصاد الإبداعي في منطقة الخليج ما زال هامشيا وربما لا يمثّل أكثر من 2% من الناتج المحلي الإجمالي الخليجي وربما أقل، رغم تلاقي الأهداف الخليجية بتنمية الاقتصاد الإبداعي ورغم تباين الإمكانات في الإبداع بين الأشخاص، إلا أن الواقع يتحتم علينا في سلطنة عُمان الإسراع في اقتناص الفرص التي يولدها الاقتصاد الإبداعي، فلماذا لا يتم إنشاء مركزا أو تنظيما إداريا في الجهاز الإداري للدولة أو بالشراكة مع القطاع الخاص يحتضن الشباب المبدعين وأصحاب الصناعات الإبداعية؛ للاستفادة من إبداعاتهم وتحويلها إلى أصولا اقتصادية تساهم في رفع مساهمة الاقتصاد الإبداعي في الناتج المحلي الإجمالي لسلطنة عُمان على غرار بعض الدول المجاورة الشقيقة؟ لماذا لا توجد مؤشرات للاقتصاد الإبداعي رغم امتلاك سلطنة عُمان لعديد من المواهب الشابة والمبدعين من صنّاع الأفلام السينمائية ومحبي الموسيقى الكلاسيكية وغير من أنواع الموسيقى والمصممين وصنّاع المحتوى الرقمي؟ أعتقد بحاجة إلى ذلك للتسهيل في صناعة القرار واتخاذه لتعظيم الاستفادة من الاقتصاد الرقمي في تنمية الاقتصاد الوطني لسلطنة عُمان وتعزيز جوانب نموّه واستدامته.
لابد أن يكون الإبداع ليس ترفا في منظور التخطيط الاستراتيجي وفي أحاديثنا، بلا هو قيمة اقتصادية ذات بعد فلسفي واسشترافي في المنظور القريب والبعيد، كيف لفرقة موسيقية في دولة ما أصبحت أيقونة عالمية؟ وكيف لرسوم متحرك أن يلهم الأطفال والشباب ويصبح حديثا في التجمعات والنقاشات المجتمعية؟ بالفعل لم تعد هذه الخيالات والإبداعات مجرد هوايات بل ظاهرة اقتصادية تنافس في المداخيل والإيرادات المالية، إنها استراتيجية رائعة تم دراستها بعناية تحوّلت إلى خطط عمل مدروسة حوّلت الأحلام إلى حقيقة بل واقعا يدمج الفن بالتكنولوجيا من خلال الاستثمار الأمثل للعقول الإبداعية، فأصبحت رافعة اقتصادية للبلدان، وفي خضم تسارع نمو الاقتصاد الإبداعي وقيام الحكومات ببحث جوانب تطويره وتوظيفه الأمثل وتمكين المبدعين؛ لجعل الاقتصاد الإبداعي أحد مسرّعات النمو الاقتصادي وتطوّره ومساهما في رفاهية المجتمعات سواءً من خلال العوائد المالية للمبدعين أو الرفاه المجتمعي الناتج عن توسّع الاقتصاد ونموّه، عليّنا ألا نبقى في دائرة التمعن والتفكير والتخطيط للاستفادة من الاقتصاد الإبداعي بقدر ما يجب أن نواكب هذا النوع من الاقتصاد تحديدا في سلطنة عُمان، فنحن المبدعين في الصناعات الحرفية منذ القدم ونحن روّاد الصناعات الإبداعية في الفنون منذ القدم ونحن من يجب أن نكون روّاد الصناعات الإبداعية، وبالتالي اقتصاد متنوع قائم على الإبداع والمبدعين، لا بد أن نبدأ ونركب قطار الاقتصاد الإبداعي، مستشرفين المستقبل الواعد لهذا النوع من الاقتصاد، فالعقول المبدعة موجودة والإمكانيات موجودة والدعم موجود بجميع أنواعه، هل نشهد وتيرة أسرع للاشتغال على الاقتصاد الإبداعي قريبا؟
لقد آن الأوان لتسريع الجهود في تنمية الاقتصاد الإبداعي في سلطنة عُمان الذي أراه هو اقتصاد المستقبل، ولا أتفق إطلاقا مع تقليد النماذج غير العُمانية في الصناعات الإبداعية، بل من خلال الاشتغال للتميّز بنماذج جديدة وآليات فلسفية مبتكرة بالاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في تسريع إنجاز الأعمال، ما يدفعنا للتفكير في الحاجة لدمج أدوات الذكاء الاصطناعي في منظومة الاقتصاد الإبداعي، مستلهمين من إرثنا العريق في الصناعات الإبداعية التي يتقنها الحرفيون وممارسو الفنون التقليدية وعقول شبابنا وخيالاتهم الإبداعية الثقافية؛ لبناء اقتصاد وطني مستدام لسلطنة عُمان، فالاقتصاد الإبداعي قوة اقتصادية حقيقية لا ترفا فكريا من يراهن عليه اليوم سيجني ثماره غدا، خلاصة القول بأن الاقتصاد الإبداعي يعد ركيزة جديدة ومستقبل واعد للتنويع الاقتصادي في سلطنة عُمان وعلينا الاشتغال لتعظيم إيراداته وبالتالي تحقيق التنمية المستدامة من خلال تنمية السياحة الثقافية والفنية التي تزخر بها جميع محافظات سلطنة عُمان بلا استثناء تزامنا مع التطور الملحوظ في نمو القطاع السياحي منذ سنوات بفضل تكامل الجهود الحكومية لتعظيم الاستفادة من قطاعات السياحة بجميع أنواعها والتركيز تحديدا على السياحة الموسمية ،ما يساهم في رفع مساهمة القطاع السياحي والاقتصاد الإبداعي في الناتج المحلي الإجمالي وفقا لرؤية عُمان 2040
حقيقة نحن بحاجة إلى دعم حكومي أكبر لتنمية الاقتصاد الإبداعي والدعم بجميع أنواعه يمثّل حجر الأساس لنجاح القطاع الإبداعي والثقافي والقطاعات الأخرى عموما من خلال معالجة التحديات التي تعترض الصناعات الإبداعية عبر تنمية المواهب الشبابية بالتدريب والتأهيل، وأيضا بتوفير الحماية القانونية من خلال وضع أطر أكثر شمولية وصرامة لحماية الملكية الفكرية لإبداعات الشباب، واستحداث نماذج مبتكرة للترويج عن الصناعات الإبداعية داخل سلطنة عُمان وخارجها مع دراسة إمكانية التبادل الثقافي والإبداعي مع الدول ذات الخبرات العالية في المجال، والمشاركة في المحافل الدولية لإبراز الصناعات العُمانية والترويج لها، إضافة إلى بحث إمكانية إقامة منتدى دولي في سلطنة عُمان يستقطب المبدعين من عدة دول؛ بهدف جذب الاستثمارات الإبداعية ودعم رواد الأعمال العُمانيين المبدعين، أعتقد أننا بحاجة إلى ترسيخ مكانة سلطنة عُمان في الصناعات العالمية الإبداعية لا إثراءً للمشهد الثقافي وحسب، بل في تعزيز منطومة الإبداع والابتكار في سلطنة عُمان من حيث دمج الإبداع بمنظومة الاقتصاد الذي بلا شك سيشهد تحسنا في مؤشرات الاقتصاد الكلي مثل التوظيف وبالتالي نموّا اقتصاديا مستداما.