يشهد العالم في الوقت الراهن إعادة تشكيل كبرى للاقتصاد العالمي، وهي الثالثة من نوعها خلال القرن الماضي. وقد كانت الولايات المتحدة في موقع القيادة خلال كل واحدة من هذه التحولات، إذ قامت بتشكيل النظام الاقتصادي العالمي على نحو يخدم مصالحها الوطنية، غير أنّه ومع كل إعادة ترتيب متعاقبة، مارست واشنطن نفوذها بصورة أكثر أحادية وأشد عدوانية، الأمر الذي دفع الشركاء بعيدًا وفتح المجال أمام الخصوم لملء هذا الفراغ.
جاءت إعادة الترتيب الاقتصادية الأولى في بريتون وودز، حيث استخدمت الولايات المتحدة، في صيف عام 1944، موقعها القوي عقب الحرب العالمية الثانية لإجبار بقية العالم على القبول بنظام اقتصادي دولي مُدار مركزيًا ومرتكز على الدولار. وكان هاري دكستر وايت، المسؤول بوزارة الخزانة الأمريكية والذي يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره المهندس الرئيس لهذا النظام، يؤمن بأن الترتيب القائم على الدولار والمدعوم بالذهب بسعر صرف ثابت سيُعزز السلام والازدهار عبر توسيع نطاق التجارة الدولية. كما أن ثبات أسعار الصرف كان من شأنه أن يضمن استقرار الاقتصاد العالمي. وبالطبع، فقد جعل هذا النظام من الولايات المتحدة مركز الثقل الاقتصادي العالمي ومنع في الوقت ذاته حدوث تخفيضات في قيمة العملات قد تضر بالصادرات الأمريكية. ورغم أن نظام بريتون وودز كان متعدد الأطراف في طبيعته، إلا أنه جاء على نحوٍ يُفضّل الولايات المتحدة.
أما إعادة الترتيب الثانية فقد فرضها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عندما أطاح بالركيزة الأساسية للنظام النقدي لبريتون وودز: قابلية تحويل الدولار إلى ذهب. هذه المرة لم يكن هناك أي ادعاء بالتعاون، إذ قرر فريق نيكسون خلال عطلة نهاية أسبوع في منتجع كامب ديفيد عام 1971 فك ارتباط الدولار بالذهب. وعندما أعرب بعض المسؤولين عن قلقهم من أن الحلفاء سيُصابون بالغضب، رد وزير الخزانة جون كونالي ساخرًا: "سنفلس ونحن نشتري حسن نواياهم... إذن، لا تُعجب الدول الأخرى بهذا القرار، وماذا في ذلك؟".
مع ذلك، وفي الأشهر التالية لانهيار النظام النقدي العالمي تحوّل فريق نيكسون إلى موقف أكثر انفتاحًا دوليًا. فقد كان جورج شولتز، الذي خلف كونالي في منصب وزير الخزانة، متشددًا في خطابه العلني، لكنه مارس الدبلوماسية الكاملة خلف الكواليس، حيث عمل بشكل وثيق مع نظرائه الأجانب للتفاوض بشأن إزالة الضوابط على رأس المال حول العالم، وهي الخطوة التي كان يعتقد أنها ستُعزز النفوذ المالي الأمريكي أكثر. ومن اللقاءات غير الرسمية التي دعا إليها شولتز وزراء المالية في مكتبة البيت الأبيض في أبريل 1973، وُلدت مجموعة "المكتبة" التي تطورت لاحقًا لتصبح مجموعة السبع (G-7)، والتي ما تزال حتى اليوم ركيزة أساسية من ركائز الدبلوماسية الاقتصادية الدولية.
"ترامب وإعادة الترتيب الثالثة للاقتصاد العالمي"
أما إعادة الترتيب الثالثة للاقتصاد العالمي، والتي نشهدها اليوم، فهي أكثر وضوحًا من حيث الطابع الأحادي. إذ أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعريفات جمركية وصفها بـ "يوم التحرير" استهدفت الحلفاء والخصوم على حد سواء، انطلاقًا من قناعته بأن الولايات المتحدة تحملت، لوقت طويل، عبء تمويل النظام المالي العالمي وأداء دور "شرطي العالم". وقد شكّلت هذه الإجراءات ضربة قوية لما تبقى من قواعد التجارة العالمية التي أُرست بعد الحرب.
ومع ذلك، يُحسب لترامب أنه أجبر العالم على مواجهة إخفاقات النظام التجاري القائم، فالعقود الطويلة من فقدان التصنيع ألحقت الضرر بشرائح واسعة من القوى العاملة الأمريكية، وأضعفت الأمن القومي للولايات المتحدة عبر خلق تبعيات خطرة في سلاسل الإمداد مع خصوم محتملين. وقد أشرفت منظمة التجارة العالمية على حقبة اتسمت بتقديم الدول دعماً سخياً لقطاعاتها التصديرية، وفرض حواجز غير جمركية بلا حساب، وتطبيق سياسات حمائية تتناقض مع المبادئ الأساسية التي تأسست عليها المنظمة. هذا الاستياء من الاقتصاد العالمي جعل السياسات المناهضة للتجارة تحظى بشعبية بين الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، وأسهم في صعود أحزاب سياسية حمائية في مختلف أنحاء العالم.
ورغم أن ترامب ليس أول رئيس أمريكي يُبدي قلقًا إزاء الأضرار التي سببتها التجارة العالمية للاقتصاد الأمريكي، فإن نهجه كان الأكثر شمولية وجرأة، فقد سبق للرئيس رونالد ريغان رغم سمعته كمدافع عن التجارة الحرة، أن فرض تعريفات بنسبة 100% على بعض المنتجات اليابانية وفرض حصصًا على الواردات لحماية الصناعة الأمريكية. وكل الرؤساء الذين جاؤوا بعد جورج بوش الابن اتخذوا خطوات جزئية لمعالجة اختلالات النظام التجاري الدولي: بدءًا من تعريفات بوش على الصلب عام 2002، وصولًا إلى قرار الرئيس جو بايدن بالإبقاء على معظم تعريفات ترامب على الصين بل وزيادة الرسوم في بعض الحالات.
لكن ما يُميز ترامب هو سعيه لإحداث تغيير هيكلي شامل،غير أن مقاربته تُضعف الشراكات الرئيسة التي تحتاجها الولايات المتحدة لإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي. وفي أشكالها الأكثر تطرفًا، تلك المقاربة التي تستهدف دور الدولار العالمي، قد تتسبب بأضرار مالية بالغة. بالفعل، بدأت دول في أوروبا وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا بالبحث عن ترتيبات تجارية جديدة تقلص من اعتمادها على الولايات المتحدة. كما أن الموجة الأولى من الرسوم الجمركية التي أُعلنت في أبريل الماضي بعثت الرعب في الأسواق المالية، ودفعت الاقتصاد العالمي إلى حافة الخطر قبل أن يُقنع مستشارو ترامب الرئيس بتجميد معظم هذه الإجراءات مؤقتًا.
إن ترامب مُحق في أن النظام التجاري العالمي بحاجة لإعادة هيكلة، إلا أن الدواء الذي يقترحه لمعالجة الاختلالات التجارية قد يكون أشد ضررًا من المرض ذاته. فما تحتاجه الولايات المتحدة ليس مقاربة انعزالية قائمة على الرسوم الجمركية الأحادية، وإنما نظام جديد يقوم على التعاون العالمي ويعزز التجارة العادلة ويقوي القدرة التنافسية الأمريكية.
وقد ظل ترامب متسقًا بشكل لافت على مدى سنوات فيما يتعلق بمشكلته الاقتصادية الأساسية: العجز التجاري. ففي عام 1987، أنفق ما يقارب 100 ألف دولار لشراء صفحة كاملة في ثلاث صحف أمريكية، دعا فيها إلى إنهاء العجوزات الضخمة عبر إجبار اليابان ودول أخرى قادرة على الدفع لتحمل نصيبها.
ويُعد هذا الطرح أكثر أشكاله جدية حين ينطلق من فرضية أن السياسات الصناعية للدول الأخرى ولّدت فوائض مصطنعة، لم يكن أمام الولايات المتحدة خيار سوى امتصاصها من خلال عجزها التجاري. وبحكم أن الدولار يتمتع بوضعية العملة الاحتياطية العالمية، فإن الولايات المتحدة، وفق هذا المنظور، مجبرة على أن تكون "المشتري الأخير" للعالم، إضافة إلى تحمل تكاليف الدفاع الدولي. ومن هنا يرى فريق ترامب أن النظام الاقتصادي العالمي الحالي "غير عادل" بطبيعته تجاه الولايات المتحدة. وكما جادل ستيفن ميران، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في إدارة ترامب، فإن العجز الذي تتحمله واشنطن بسبب موقعها العالمي قد "دمّر قطاع التصنيع الأمريكي" وأسهم في تراجع القاعدة الصناعية للبلاد. وبذلك، يُنظر إلى العجز التجاري على أنه الخطيئة الأصلية، وأن إصلاح الاقتصاد العالمي يبدأ وينتهي بمعالجة هذا العجز.
غير أن هذا الإطار الفكري يُسيء قراءة طبيعة الاختلالات التي تعصف بالنظام الاقتصادي العالمي، ويتجاهل العوامل المالية المحلية التي تقود العجز الهيكلي في الموازنة الأمريكية. فالعجز التجاري وفقدان التصنيع هما أعراض، لا أسباب بحد ذاتهما. أما المشكلة الجوهرية فهي فشل النظام التجاري والمالي الدولي في منع الممارسات غير العادلة التي قوّضت قدرة الولايات المتحدة على المنافسة في بيئة متكافئة. ومن أبرز هذه الممارسات السياسات الصينية، التي تشمل تقديم إعانات صناعية ضخمة، والإفراط في الإنتاج الموجّه للتصدير، وتجاهل قواعد العمل والمعايير البيئية. ونتيجة لذلك، توقفت الولايات المتحدة عن تصنيع منتجات في قطاعات تتمتع فيها بميزة نسبية حقيقية، لا سيما التكنولوجيا المتقدمة، مما فاقم حالة التآكل في قاعدتها الصناعية.
الصين والحاجة إلى الحلفاء
هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ينبغي أن تسعى لتصنيع كل شيء. فمن غير المرجح أن تهيمن الصناعات الأمريكية على الأسواق العالمية للمنسوجات أو الأحذية الرياضية، لكن كان يمكن لها أن تصبح منتجًا رائدًا للسلع المتقدمة مثل الإلكترونيات الدقيقة والأجهزة الطبية لو أن الجميع التزم بالقواعد نفسها.
وفي السنوات الأخيرة، ساهمت الملاذات الضريبية للشركات في تشويه التجارة العالمية وأضعفت القدرة التنافسية الأمريكية، إذ شجّعت الشركات على نقل التصنيع والملكية الفكرية عالية القيمة إلى دول ذات ضرائب منخفضة. فأيرلندا أصبحت ثالث أكبر مصدر للخدمات الرقمية في العالم، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى استغلال الشركات الأمريكية لنظامها الضريبي. ويُبرز نموذج عمل شركة "آبل" هذه الإشكالية بوضوح: حيث تُبتكر التكنولوجيا في الولايات المتحدة، ويُصنع المنتج في الصين، بينما تُسجّل الأرباح في أيرلندا. وفي عام 2018، قدّر صندوق النقد الدولي أن ربع نمو الناتج المحلي الإجمالي الأيرلندي ارتبط بمبيعات "آيفون" العالمية، بفضل العوائد المدفوعة إلى فروع "آبل" الأيرلندية المالكة للملكية الفكرية. وبينما يجني المساهمون في هذه الشركات مكاسب ضخمة، تخسر الولايات المتحدة جزءًا من قاعدتها الصناعية والضريبية.
إن معالجة هذه التحديات أمر ضروري، غير أن اتباع نهج تجاري يتجاهل الحلفاء محكوم عليه بالفشل. فاقتصاد الصين، بحجمه الكبير وقدراته الصناعية الهائلة وسياساته الصناعية الواسعة، يحتاج إلى مواجهة جماعية. والولايات المتحدة وحدها القادرة على بناء تحالف متماسك للتصدي لسلوك بكين غير التنافسي.
الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وغيرها يشاركون الولايات المتحدة قلقها من السياسات الصناعية الصينية وتشوهاتها في الأسواق، بدءًا من السيارات الكهربائية وصولًا إلى الصلب. فإنتاج الصين من الصلب يولّد كميات هائلة من الانبعاثات الكربونية، كما أن البلاد تعمل وفق معايير عمالية أدنى من تلك السائدة في الاقتصادات الصناعية المتقدمة. ومع تعثّر صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بسبب الرسوم، أخذ فائض إنتاجها يغرق أسواق أوروبا وجنوب شرق آسيا وغيرها، مهددًا صناعاتها الوطنية. وبالتالي، فإن الطريقة الفعالة الوحيدة لمنع الصين من التلاعب بالنظام التجاري العالمي هي من خلال العمل مع دول متشابهة في الرؤية لفرض حواجز جمركية وغير جمركية تكبح هذه الممارسات.
قوة الدولار ومخاطر تراجعه
تجاهل الحلفاء والادعاء بأن الولايات المتحدة هي الضحية المطلقة في التجارة العالمية يغفل الفوائد التي جنتها واشنطن من الدور الاستثنائي للدولار في الاقتصاد الدولي، فالدولار حاضر في نحو 90% من معاملات الصرف الأجنبي، ويستخدم في أكثر من نصف المدفوعات العالمية المرسلة عبر نظام "سويفت"، المنصة المالية التي تُدير جانبًا كبيرًا من التجارة الدولية. وبفضل هذه المكانة، يتمتع الأمريكيون بقوة شرائية أكبر ومستوى معيشي أعلى، فيما تستفيد الشركات الأمريكية من استيراد المكونات بتكاليف أقل.
كما يمنح انتشار الدولار الولايات المتحدة ترسانة من الأدوات المالية لا يملكها أي بلد آخر؛ إذ تلتزم الشركات حول العالم بالعقوبات الأمريكية لأنها لا تستطيع الاستغناء عن الدولار في معاملاتها التجارية. هذا فضلاً عن أن مكانة الدولار تخفض من تكاليف الاقتراض الأمريكي، إذ تُولّد طلبًا مستمرًا على سندات الخزانة والأصول الأمريكية الأخرى، ما يجعل تمويل برامج الدفاع والرعاية الاجتماعية أقل تكلفة.
غير أن هذه المزايا تواجه تحديات متنامية، فمع تصاعد الرسوم الجمركية واتساع العجز، وتزايد حالة عدم اليقين الاقتصادي الكلي، بدأت الاستثمارات الأجنبية في التراجع، وهو ما انعكس على ضعف الدولار وارتفاع تكاليف الاقتراض الأمريكي جنبًا إلى جنب مع تنامي الدين العام. وهنا نستطيع القول أن الوقت ليس مناسبًا لإثارة الشكوك حول الدور العالمي للدولار، إذ أن زعزعة الثقة به ستؤدي إلى نتائج اقتصادية ومالية خطيرة على الولايات المتحدة والعالم.