محمد بن عبدالله لم تكتب سيرة نبي كسيرته؛ فقد رويت عنه آلاف الروايات بعشرات المجلدات نقلت تفاصيل حياته اليومية، وعلاقاته الاجتماعية، وتعامله مع صحابته، وحروبه مع خصومه، ومعاهداته مع الحكام.
والسؤال: لو نُظِمَتْ تلك الروايات في سياقٍ واحد، فهل يُخرَج منها بشخصية واحدة؟ الواقع أنَّه سنكون أمام شخصيات عدة لا يكاد إحداها تصدق على الأخرى. وقد تتشكل شخصيات غريبة لا تنتمي إلى عالم البشر، فضلًا أنْ تمثّل شخص النبي الذي اصطفاه الله خاتمًا للنبيين، ومبلغًا كلمته الخالدة، وعلى يده اكتمل الدين. إنَّ لكل مذهب سرديته التي تختلف بدرجة ما عن سرديات بقية المذاهب. من هذا المحيط المتلاطم بالمتناقضات نسج الطاعنون مآخذهم على النبي الكريم، كما نقض المدافعون عنه ذلك الغَزْل الذي هو أوهى من بيت العنكبوت. هذا التضخم في نقل سيرة النبي ليس اهتمامًا خالصًا بشخصه بقدر ما هو وليد الصراع بين المسلمين، وبينهم وبين الأديان والأفكار الأخرى.
محمد بن عبدالله عاش ما بين 570-632م. بُعث في مكة حوالي عام 610م، وعام 622م هاجر إلى المدينة، ومولده يوافق حوالي 22 أبريل 571م. ورغم أنَّ الرواة لم يتفقوا على تأريخ ولادته، لكن أغلب المسلمين اعتادوا الاحتفال سنويًا بمولده في 12 ربيع الأول. والقرآن نقل كثيرًا من المواقف النبوية، غير أنَّه لم يسردها زمنيًا، وإنَّما أتى بها لأغراض دعوية، أو لبيان أحكام شرعية، أو لتفصيل أحداث كبرى كالحروب، أو في مقام الرد على المكذبين برسالته.
وكان ينبغي أنْ يتخذ كُتّاب السيرة القرآن منطلقًا لفهم الحياة النبوية؛ لا أنْ يشعروا بأنَّ بها فجوات عليهم أنْ يسدّوها بالروايات.
القرآن لم يتحدث عن حياة محمد منذ مولده حتى بعثته مباشرة، إلا إشارة لبعض أحواله في «سورة الضحى». والمقال لا يدعو إلى القطيعة مع التراث؛ فهذه دعوى سقيمة منهجيًا، وإنَّما يحاول استجلاء أسس الشخصية المحمدية من خلال القرآن؛ لجعلها معيارًا لقَبول أو رفض الروايات المرفوعة إلى النبي.
وهذا بعض أسس شخصيته قبل بعثته، بل أسس حياته عمومًا:
- بشرية النبي محمد: هذه أولى سماته، وعليها ينبغي أنْ تقوم كل التصورات حول شخصيته: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، وللتأكيد وردت مرتين «الكهف:110، فصلت:6». وكون النبي بشرًا يستلزم أنْ يصيبه من العوارض ما يصيب الناس، وطاقته الجسدية لا تخرج عن طاقتهم، وتسري عليه سنن الله فيهم: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) «الإسراء:93»؛ فكثير مما روي عن إرهاصات مولده وبعثته يخالف الطبيعة البشرية. وهذا يستلزم أيضًا عدم جواز إضافة أية خاصية إلهية إليه، بل يجب تجريده مما يغلو به إلى مقام الألوهية؛ فقد حذّر الله أهل الكتاب بقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ) «النساء:171». وإنَّما ميزته اصطفاء الله له برسالته كما اصطفى النبيين من قبله. ومِن الفقهاء العمانيين مَن راجع روايات المولد النبوي وفقًا للطبيعة البشرية؛ أحمد بن سعود السيابي في كتابه «المولد النبوي.. نظرة تصحيحية في الأحداث والوقائع» «الغبيراء، بَهلا، 2005م».
- تحليه بالخُلُق العظيم: يخاطب الله نبيه قائلًا: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) « القلم:4» ، فالرسالة لا يجوز أنْ يُصطفى لها ناقص الأدب، والأخلاق العظيمة إنَّما يتصف بها «الإنسان الكامل» في سجاياه النفسية. وهذا لا ينفي أنْ تبدر منه الأحوال الطبيعية التي تعتري الإنسان كالغضب، لكن لا تحمله على ظلم الناس، فإنْ لفحته نار الغضب ساعةً فسرعان ما تهدأ نفسه، ويسترد اتزانه.
إنَّ كل ما يطعن في خُلُق النبي من الروايات غير مقبول، ولا يجوز أنْ يُبنى عليه تصور عن شخصيته، فضلاً أنْ يستدل به على حكم فقهي.
- يمارس أعمال المجتمع: (وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) « الفرقان:7».
والآية وإنْ نزلت بعد بعثة النبي في مقام الرد على منكري نبوته، إلا أنَّه كان كسائر الناس يمارس حياته الطبيعية، حاشاه عمّا يخترم مروءته، ويشين بخُلُقه.
- عدم اشتغال النبي بدراسة الكتب والتأليف: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) «العنكبوت:48»، والآية وإنْ لم تكن صريحةً في نفي الكتابة والقراءة عن النبي قبل بعثته، إلا أنَّها تؤكد على عدم اشتغاله بقراءة الكتب والتأليف في العلوم، وما زلت أرى أنَّ دلالتها أقرب إلى عدم قراءته وكتابته قبل البعثة، كما أنَّه لم يأتِ دليل قرآني يصرّح بتعلمهما بعد بعثته.
- عاش النبي في مجتمع ساد فيه «شرك الولدية» الذي هو على ضربين: القول بأنَّ الملائكة بنات الله والجن أبناؤه، والقول بأنَّ عيسى بن مريم ابن الله. ولم تكن في عهده عبادة الأصنام سائدة في جزيرة العرب، وقد حررتُ بذلك مقالًا بعنوان «الصنمية لدى العرب.. عشية البعثة المحمدية» نشرتْه جريدة «عمان» مشكورةً بتاريخ: 12/ 10/ 2024م. ولذلك؛ لا تُقبل الروايات التي تنقل عن النبي أنَّه أكل ما ذُبح للأصنام قبل بعثته، ونحوها مما يقول بوجودها في بيئة النبي.
وبعد؛ فيقول الله: (وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) «سورة الضحى». اعتبرت السورة من حيث ترتيب النزول الثامنة بعد «سورة الفجر»، وقبل «سورة الانشراح». ويروون أنَّها نزلت بعد فترةٍ للوحي عن النبي، وهي روايات لا تصح؛ ففيها طعن في مقام النبوة كالقول باضطراب حاله حتى كاد أنْ يتردى من شواهق الجبال!
وعندي أنَّها ثاني سورة نزلت بعد «الفاتحة» التي هي أول القرآن نزولًا؛ فالله أنزل في «الفاتحة» على نبيه الإسلام مجملًا من الإيمان به وبالبعث، والاستعانة به وحده، والتوجه بالعبادة له دون سواه، ووضع فيصل بين الاستقامة والضلالة. وظل مدةً يتفكر في معانيها، وكيف يمكنه تبليغها للناس، ما جعله يتشوّق إلى المزيد من وحي الله، فكان ذلك تهيئة لينزل عليه القرآن مفصلًا الذي قال الله عنه: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) « المزمل:5». لقد كان افتتاح السورة بذكر «الضحى» الذي يعقب «سجو الليل» مناسبًا لبداية يوم جديد في حياة محمد والدعوة الإسلامية، وهذا من براعة الاستهلال.
تحدثت السورة عن ثلاثة أحوال للنبي قبل بعثته: اليتم والضلال والإعالة، وكلها شأن اجتماعي، ولا يمكن حمل «الضلال» على معنى ديني صرف، فيقال: إنَّ محمدًا لم يكن موحِّدًا قبل البعثة، أو إنَّ لديه غبشًا في التصور الإيماني. فالمقصود بـ«الضلال» هو كثرة التساؤل الذي توارد عليه؛ فهو يتساءل في الوجود ومدبر شأنه، ولماذا لم يتفطن الناس إلى إخلاص الوحدانية لله؟ وما واجبه اتجاههم؟
لقد جاءت الآيات الثلاث الأخيرة منسجمة مع التي سبقتها: فـ(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) مناسبة لـ(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى)، (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) مناسبة لـ(وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)، وكذلك (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) مناسبة لـ(وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى)، فالله يقول لنبيه: يا محمد لا تنهر من يأتيك متسائلًا عن الوجود وخالقه؛ فإنك كنت تتساءل كذلك، وتبحث عن مخرج من هذا «الضلال» إلى هدي الجواب، فأتاك وحي الله؛ فلتبلغه إلى الناس متحملًا تساؤلاتهم. هكذا يكون البيان القرآني بليغًا، وإلا أصاب الخلل معناه.
خميس العدوي كاتب عُماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين».