غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:-
في صباح الرابع عشر من أبريل 2024، بعد أربعة أيام فقط من انقضاء رمضان، كانت العائلة الغزية تحزم ما تبقى لها من مؤونة النزوح. الحرب أخذتهم إلى جنوب القطاع، لكن قلوبهم بقيت معلقة بالبيت في مدينة غزة، عند قصر العدل حيث الذكريات والصور القديمة. حينها قرر جمال، المعروف بين جيرانه وأحبائه بـ«أبو نبيل»، أن يعود في زيارة سريعة لتفقد المنزل الذي غادره تحت أزيز القصف.
لم يكن أحد يتوقع أن تكون تلك الرحلة القصيرة هي آخر خيط يصل العائلة به. منذ دخوله المدينة لم يعد خبر ولا أثر. ضاعت خطواته بين ركام المحاكم والشوارع المحاصرة، ومنذ ذلك اليوم صار اسمه يرافق كلمة واحدة: المفقود. زوجته ما زالت تتحدث عنه كأنه حي، تنتظر أن يعود في أي لحظة، لكن غياب اليقين أصعب من الموت نفسه.
«لا نعرف هل اعتُقل أم استُشهد»، تقول زوجته وهي تحمل صورته بين يديها. وتضيف لـ«عُمان»: «حتى ابنته مرح التي كانت بصحبته لم يعد لها خبر. نعيش منذ سنة وأربعة أشهر على هذا السؤال: أين هما؟».
البيت بلا أبو نبيل فقد كل نكهته، تقول وهي تستعيد لحظاته بينهم. كان يحمل الطحين، وينقل المياه إلى الخيمة، ويجلس مع أبنائه يحاورهم ويعلمهم. «اليوم كل ذلك غاب، وبقيت الحياة بلا طعم ولا لون». وفي كل جمعة على مائدة العائلة، يغيب الكرسي الفارغ ليذكّرهم بأن الفقد ليس مجرد غياب جسد، بل انقطاع روح كاملة من تفاصيل يومهم.
مأساة متكررة
ليست قصة أبو نبيل وحدها التي تروى في قطاع غزة، بل هي جزء من مشهد أكبر لحرب تجاوزت الثلاثة وعشرين شهرًا، قلبت الأحياء إلى أنقاض، وأدخلت آلاف العائلات في رحلة بحث لا تنتهي عن أحبائهم. الاحتلال لم يكتف بالقتل المباشر، بل ترك آلافًا آخرين بين مصير غامض: لا قبر يضمهم، ولا قائمة معتقلين تحمل أسماءهم، ولا خبر يطمئن ذويهم.
تتحدث التقديرات الحقوقية عن قرابة أحد عشر ألف مواطن فقدوا منذ بدء الحرب، منهم من يُرجح أنهم تحت الأنقاض، ومنهم من اعتقلوا في ظروف سرية دون إقرار رسمي، ومنهم من لا يُعرف عنهم شيء. ومع كل يوم يمر يزداد الجرح اتساعًا.
المفقودون في غزة ليسوا مجرد أرقام في سجلات، بل هم قصص عائلات ممزقة، وأطفال بلا آباء، وزوجات يطاردهن الأمل الكاذب كل صباح. هذه المأساة تمثل جرحًا إنسانيًّا يضاف إلى سلسلة طويلة من الانتهاكات التي ارتكبها الاحتلال في حق المدنيين.
الأمم المتحدة لم تستطع حتى الآن فتح أي مسار فعال للتحقيق أو التوثيق. مؤسسات حقوقية محلية ودولية تحاول تجميع البيانات، لكنها تصطدم بجدار الاحتلال الذي يحجب المعلومات ويرفض الاعتراف بالمخفيين قسريا. النتيجة أن آلاف العائلات تعيش على أمل معلّق، لا تستطيع إعلان الحداد ولا الاحتفال بالعودة.
غياب الحقيقة
وسط هذا الغياب، يظهر صوت الطفل نبيل، ليعيد للقصة بعدها الإنساني الأكثر إيلامًا. يقول بصوت متقطع: «اشتاق إلى أبي كثيرًا. افتقده على مائدة الطعام. لا أعرف له قبرًا ولا مكانًا. أتمنى أن يعود هو وأختي».
نبيل، الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة، يعترف بمرارة أنه لا يملك حتى صورة لقبر يقف عنده ليقرأ الفاتحة. يوضح لـ«عُمان»: «كل المؤسسات التي لجأنا إليها لم تمنحنا إجابة. الصليب الأحمر لم يجد اسم والدي في قوائم المعتقلين، كما لم يرد ذكره بين قوائم الشهداء». ليبقى نبيل عالقًا بين أمل العودة وخوف النسيان: «كل يوم يحدثني عقلي بأنه سيعود. يجب ألا أنساه».
في هذا السياق، يوضح غازي المجدلاوي، منسق المركز الفلسطيني للمفقودين والمخفيين قسرًا في غزة، أن ظاهرة المفقودين بدأت منذ الأيام الأولى للحرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع، ومع مرور الوقت تحولت إلى أزمة وطنية كبرى. يقول: «نحن نتحدث اليوم عن قرابة أحد عشر ألف حالة فقدان، تمكنا من توثيق حوالي خمسة آلاف منها حتى اللحظة».
المجدلاوي يؤكد خلال حديثه لـ«عُمان» أن المركز أطلق منصة إلكترونية تتيح للعائلات الإبلاغ عن ذويهم المفقودين، وتقديم تفاصيل دقيقة عن أماكنهم الأخيرة، ملابسهم، الأشخاص الذين كانوا برفقتهم، وحتى الشهود الذين رأوهم. يوضح: «بهذا الشكل نستطيع بناء قاعدة بيانات تتيح لنا ملاحقة القضية ومخاطبة المؤسسات الدولية».
إلا أن ما تم التوصل إليه حتى الآن قليل جدًا. يُبين: «من خلال شهادات بعض الأسرى المحررين، عرفنا أن عددًا محدودًا من هؤلاء المفقودين محتجزون بالفعل في سجون الاحتلال. لكن إسرائيل تنكر وجودهم، وتصر على طمس الحقيقة».
يصف المجدلاوي الإخفاء القسري بأنه «جريمة ضد الإنسانية» وفق اتفاقية جنيف الرابعة ونظام روما الأساسي. لكنه يعترف بغياب أي تحرك دولي جاد لإيقاف هذه الانتهاكات. يقول بمرارة: «الاحتلال يستغل الصمت الدولي ليواصل ارتكاب الجريمة».
المجدلاوي يميز بين ثلاثة أصناف من الضحايا: المفقودون الذين لا يُعرف عنهم شيء، والمخفيون قسرًا الذين يوجد دليل على اعتقالهم رغم إنكار الاحتلال، والشهداء تحت الأنقاض الذين لم يتمكن الدفاع المدني من الوصول إليهم بعد.
ويشير إلى أنه خلال فترة التهدئة، من يناير حتى مارس 2025، تمكنت فرق الإنقاذ من انتشال أكثر من 2500 جثمان من تحت الأنقاض بمناطق كان الاحتلال قد توغل فيها في مدينة غزة والشمال».
ولكن منسق المركز الفلسطيني للمفقودين والمخفيين قسرًا يختم: «كل هذه الأرقام لا تعكس سوى جزء من الصورة. الحقيقة أكبر بكثير. هناك مئات العائلات التي لم تستطع حتى التبليغ بسبب ظروف النزوح والحصار».
إخفاء قسري
في صباح الثاني من فبراير 2024، كان محمود الغرابلي، رجل سبعيني مصاب بالسرطان ويعيش في خان يونس، يحاول مع أفراد عائلته الهرب من شدة القصف. حمله أبناؤه على كرسي خشبي لأنه لم يكن قادرًا على المشي بمفرده. وبينما كانوا يسلكون طرق النزوح، اعترضتهم قوة من جيش الاحتلال وقامت بفصل محمود عن عائلته بالقوة. كانت تلك اللحظة الأخيرة التي رأوه فيها.
شهود من الجيران الذين نزحوا في التوقيت نفسه أكدوا أن الجنود أخذوه وسط حشود المدنيين، وأجبروه على السير معهم رغم حالته الصحية الصعبة. ابنه قال لاحقًا في تصريحات صحفية: «لم نتمكن من فعل شيء. كانوا مسلحين، ورأيناهم يسحبونه أمامنا، ثم لم نعرف عنه شيئًا». منذ ذلك اليوم، انقطعت أخباره تمامًا.
العائلة بحثت في كل مكان. توجهوا إلى مكاتب الصليب الأحمر وسجلات وزارة الأسرى، وفتشوا بين قوائم المعتقلين التي ينشرها الاحتلال من حين لآخر، لكن اسم محمود لم يظهر في أي منها. وحتى عندما تواصلوا مع مؤسسات حقوقية، جاءهم الرد الصادم بأن إسرائيل «لا تعترف بوجوده لديها». هذا الإنكار زاد من مأساة العائلة التي تعيش منذ شهور طويلة بين أمل أن يكون حيًّا وبين خوف أن يكون قد استُشهد في الخفاء.
بالنسبة لعائلته، لم يكن محمود مجرد شيخ مريض بالسرطان، بل كان سندهم العاطفي والرمزي. كانوا يتوقعون أن يقضي أيامه الأخيرة بين أحفاده وأبنائه، لا أن يختفي خلف جدران غامضة أو يُترك مصيره مجهولًا. يؤكد ابنه لـ«عُمان»: والدي لم يكن مجرد شيخ مريض بالسرطان، كان روح البيت وسنده. كنا نتوقع أن يعيش بيننا أيامه الأخيرة، لكن الاحتلال حرمه من ذلك. غيابه جعل العائلة كلها في صدمة، نحن نفتقده في كل تفاصيل حياتنا اليومية، ونريد أن نعرف مصيره».