أودع الراحلين وعلى أثر رحليهم أشيع معهم جزءا من ذكرياتي، وأنعي ثقافتهم التي رحلت معهم دون أن توثق أو تدون، فحين يرحل جار ورجل كبير في السن جمعنا الزمن به في مواسم محددة أو في مشتركات معينة، فإن وجه الراحل لا يغيب فحسب بل تحضر الذكريات التي كان فيها حاضرا خاصة في هذه الأيام بالذات التي نودع فيها الخريف ونستقبل موسم الصرب وعادة (خطليت) التي تجمع مُلاك الإبل في المبارك المعاطن، فيجتمعون بعد غياب حول كامل، فتزيد البهجة والفرحة باللقاء والرعي بين الأشجار والغابات.
ما الذي يعنيه رحيل صاحب إبل مجايل لوالدي ورفاقه ممن امتلكوا النوق ونذروا أنفسهم لقطعان إبلهم، وتحملوا ظروفا معيشية صعبة لأجل العناية بالحيوان، الحقيقة أننا لا نستغرب تعلق الإنسان بالحيوان لأن الحيوان المستأنس مثّل في فترة تاريخية قريبة مصدرا للغذاء والرخاء لصاحبه، وخاصة الإبل التي كانت جزءا من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في ظفار قبل السبعين.
أدرك تماما أن لا أحد سيكتب عن مُلاك الإبل، ليس تجاهلا وإنما جهلا بحياتهم وطرقهم في العيش وفلسفتهم في الحياة، ولا ألوم أحدا على ذلك لأنهم ببساطة لم يعيشوا معهم، ولم يجربوا معهم سلطة التعلق بالإبل، ولم يستسلموا لقوة التفضيل، تفضيل الناقة على النفس، شيء من هذا حدث أمام أعيننا نشهد على ذلك ونشاهده، والأهم من كل ذلك أنهم أوجدوا رابطا اجتماعيا بين أصحاب الإبل في جبال ظفار الذين يقدرون صاحب الناقة وراعيها، ويتجسد ذلك في مشاهد عدة خاصة في المناسبات الاجتماعية إذ يتحلقون أصحاب الإبل في لقاءات تكون الناقة في العادة محور الحديث، والسبب في تعارف أصحاب الإبل أنهم يتنقلون دائما ويتخالطون مع رعاة آخرين فتتوثق بينهم المعرفة والألفة كما يحدث عادة في العادة الموسمية (خطيل الإبل) التي يمارسها مُلاك الإبل في جبال ظفار.
منذ أسابيع قليلة رحل سعيد بن مسلم العمري الملقب بـ«إديقص» بمعنى السريع والحريص، أو «برمحاد آسيلم»، شخصية عرفناها منذ الصغر وكان مضرب مثل للراعي الحريص على إبله والمعتني بها، فحين يهمل مالك إبل نوقه يقال عنه (صاحبها ليس بر محاد آسيلم) فقد ذاع صيته في ثقافة عرفها ومارس من خلالها كل الطقوس المتعلقة بالإبل التي أخلص لها حتى الرمق الأخير في الحياة، فلا تغفو له عين دون أن يكون مطمئنا لإبله، متنازلا عن كل ملهيات الحياة لأجل «مُت طيب» سلالة إبله (بنات الذهب)، والتي خلدها هو ذاته في قصيدة (دبرارت)، عندما باع إحدى نوقه لمجموعة أرادوا ذبحها لعيد الأضحى، وكأي إنسان حريص فقد وثق ناقته وربطها صباح يوم العيد للذبح، وحينما أتى المشترون قدم لهم الناقة وأخذ عدته وهم بالمسير خلف قطيعه، فقالوا له أذبح ناقتك. أخبرهم أنه مشغولا بإبله، فقالوا لا بما أنها ناقتك فأذبحها، فما كان منه إلا أن حل عنها الوثاق ونكزها لتلتحق بقطيع الإبل، وأنشد قصيدة تناقلها الرواة بعد ذلك ونترجمها هنا من اللغة الشحرية كما وصلتني، يقول في مطلعها: «لماذا أذبح (إطيب) ليسعد الحمقى، يأكلون لحما وشحما ويقولوا (أدِقص يرزح) أي -يمرض ويسوء حاله- قد امتطاها والدي وطاب له الركوب، وكم مرة سقيت حليبها للعابرين، وأتذكرها جيدا ارتوائي منها».
رحل (إديقص) الذي اشتهر بحبه للإبل وحرصه الشديد عليها، فلا تكاد تغيب ناقة عنه ولا يعقل الناقة الماخض لكيلا يتعبها بحبل الوثاق، رحل، وفي رحيلهم يقتطعون جزءا من الذاكرة، وكلما فقدنا إنسانا عشنا معه وتعمقنا في ثقافته، كلما كان الفقدان أقسى وأمرّ.
محمد الشحري كاتب وروائي عُماني