زرت قريبة لي مؤخرًا، وهي امرأة فاضلة فقدت ابنها قبل فترة قصيرة، أثناء حديثنا، تطرقنا إلى موضوع المال، ففاجأتني بنبأ تبرعها بنصيبها من ميراث ابنها بالكامل لحفر آبار صدقة عنه في إحدى الدول الفقيرة، والأدهى من ذلك، أنها تنوي التبرع بمعاشها التقاعدي الشهري أيضًا، رغم أنها تعيش على الضمان الاجتماعي ولديها ابنة تحتاج إلى إعالتها.
في لحظة، تساءلت في نفسي: هل هذا التصرف نابع من إيمان خالص ورغبة في نفع المتوفى، أم أنه يعكس شيئًا آخر؟ بالطبع، الصدقة عن الميت من أسمى القربات وأجملها، ولكنني رأيت في قرارها ما يتجاوز البعد الروحاني.
هذه المرأة ليست حالة فريدة، الكثيرون منا يتصرفون بهذه الطريقة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمال الموروث الذي يحمل في طياته مشاعر متناقضة ومعقدة، فالبعض يشعر بالذنب تجاه الميت، خاصة إذا كانت العلاقة بينهما غير مستقرة أو تشوبها خلافات سابقة، في هذه الحالة، يصبح المال رمزا للذنب المكبوت، ويتحول التصدق به إلى وسيلة غير واعية لـ«تطهير» الذات من الإحساس بالتقصير، ومحاولة للتصالح مع ذكرى المتوفى عبر التخلص من المال الذي يثير هذه المشاعر المؤلمة.
على الجانب الآخر، هناك من يعاني من شعور عميق بضعف الاستحقاق، هؤلاء الأشخاص لا يشعرون بأنهم يستحقون المال الذي وصل إليهم «بسهولة» أو «دون جهد»، فيسارعون إلى التخلص منه عبر توزيعه على الفقراء، وكأن الاحتفاظ به يمثل عبئًا نفسيًا ثقيلًا، المال في هذه الحالة ليس نعمة يجب استثمارها، بل حملًا يجب التخلص منه بسرعة.
لا شك أن الصدقة أمر محمود، وهي جوهر التكافل في ديننا الحنيف .. لكن يجب أن تتم وفق ضوابط الشرع، وبرغبة حقيقية في العطاء بلا من ولا أذى، وأولها أذى النفس، عندما تصبح الصدقة مجرد آلية للتفريغ النفسي أو الهروب من مواجهة مشاعر الذنب، فإنها تفقد قيمتها الحقيقية.
بالتالي فإن الوعي النفسي يساعدنا على إدراك أن مواجهة مشاعر الذنب والتصالح مع الذات أكثر ديمومة وأهمية من التخلص السريع من المال، الصدقة عن الميت قربة عظيمة، ولكنها قد تتحول أحيانًا إلى مرآة تعكس صراعات داخلية لدى الورثة.
التوازن بالتالي هو ما يضمن أن يكون عطاؤنا فعلًا نقيًا، لا مجرد وسيلة للتخفف من ثقل داخلي .. علينا أن نسأل أنفسنا: هل نعطي من باب الإحسان أم من باب التخلص من مشاعر مكبوتة؟
يقول الله عز وجل: «وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ» والعفو في اللغة هو الزائد عن الحاجة.
حمدة الشامسية كاتبة عُمانية في القضايا الاجتماعية