(1)

تسوِّف الرِّمال المعابد، وتنبثق الهياكل من السَّراب، ثم يختفي كل شيء في العاصفة والحليب والنَّبيذ وسُمِّ «الشَّوكران» الذي تجرَّعه بقرار المحكمة أول شهيد للفلسفة في التاريخ، سقراط، في العام 399 قبل الميلاد، من جديد، ويذهب الناس إلى مواطن ثانية من الولادة، وننتظر أن يُكتَب التَّاريخ مرة أخرى.

ينضوي فوقنا الرَّمل، ولا يدفننا السَّحاب، ولا تعزِّينا الغيوم، ولا تأبه الذِّكريات بالشُّهداء والرَّماد واحتمال الحريق. وكنت قد زرت مؤخرًا قرية وادي المر بولاية جعلان بني بوعلي في صحراء المنطقة الشَّرقيَّة من عُمان، والتي دفنتها الرِّمال الزاحفة بلا أدنى اعتذار أو اعتبار؛ فرأيت كل شيء في ذلك المشهد القيامي، وتذكرت الحوار الوارد في فيلم «هيروشيما، يا حبيبتي» لألن رينيه (فرنسا، 1959)، وأنا أستبدل في عينيَّ هيروشيما بقرية وادي المر:

«-- أنتِ لم تري شيئًا في هيروشيما.

-- بلى، لقد رأيت كل شيء».

(2)

ذلك الضوء الأزرق الذي انبثق من الكفن كان محض حجاب، مثل عتاب غامر.

(3)

من سينتقم للبشر، والذُّباب، وبنات آوى، والهواء، وعمَّال رش المبيدات في البلديَّة؟

الأرجح ألا أحد سيتكفل بذلك.

(4)

سيأتي الليل حين يريد البحر، والبحر لا يبغي شيئًا.

(5)

الجسد علكة، والكلام مُضَغَة، وكل من يسمعك لا بد أن يكون شخصًا آخر، والفؤاد صمت، وكل الصُّور والتَّشبيهات بحاجة إلى خمر أو حريق أو سُكَّر.

وأمام كل ذلك، أنت وحدك في السُّكنى.

(6)

صار يمكن قول هذا بخوف قليل جدًا من البلل أو السِّياط: لم يعد هناك بحر في المدينة، ولم تعد مسقط من أعمال الأزرق الكبير والواسع.

تُرى، إلى أين نذهب؟

(7)

لغاية الآن، لم يتمكن أي أحد من قول أي شيء عن الموت.

يتعهَّد الموت بنفْسه، ويتخذ - في بعض الحالات المتطرِّفة --أقصى درجات الحيطة والحذر.

لكن الموت ليس صك غفران لأي أحد (لا للأحياء، ولا الأموات، ولا أولئك الذين هم بينَ بين).

الكارثة هي أن الموت (ولأسباب وجيهة للغاية حينًا، وغير مقنعة في أحايين أخرى) يجبرنا على الحديث عنه. وهذا كل ما في الأمر.

(8)

وهو يوقِّع أحكام الإعدامات على عَجَل مهرولًا بالأوراق من دون أن يقرأ الأسماء، كان يبحث لاهثًا عن أمِّه التي تاهت في الأروقة.

نفِّذت أحكام الإعدام، والأم لا تزال غائبة في مكان ما من القصر.

(9)

لا شيء في الجحيم يمكن أن يخرج عن هذا الطَّور (وأنا، شخصيًّا، ذاهب إلى هناك من باب التَّيقُّن من صحة المعلومة، فقط).

(10)

ساقتهم التُّفاحة إلى المجد. وكتبنا عنكَ للمجد في المجد، ثم إننا نسيناك أيها المجد.

(11)

ذلك الاحتضان الطويل والدَّمعتان القصيرتان كان مزاحًا كئيبًا (لكن، لأسباب لا تخصُّ الكآبة، ولا الشَّخصين، بل تاريخ البلاد).

(12)

يجوز لي أن أدَّعيكِ في مناسبة هذا الصَّيف.

(13)

هو سباق التثاؤب للمسافات الطَّويلة.

(14)

أمضي، لا في الكتابة، ولا في المَنَّ والسَّلوى، بل أمضي في المُضي، فحسب.

(15)

تقودهم الحيَّات إلى الرَّمل، ويتسمَّمون لدى أمهاتهم.

(16)

ليس الموت من خصال التَّنبيه (ولا ينبغي أن يكون العكس كذلك).

(17)

أقاسمكِ الفرار الذي وقع، وكل الذي سيحدُث بعد الماء.

(18)

يتجنب الحب في النهار، ولا يتحاشى الليل في كل الأطوار.

(19)

الأم في الأدراج، عند البسكويت، والرَّوائح القديمة، وفي اللحظة المناسبة، وغير المناسبة.

(20)

كل من نسي ميّت، وكل من يتذكَّر يموت.

(21)

الموت شأن من أقدار السَّماء، ومن سرديَّات الأساطير، ومن اشتغالات أندريه تاركوفسكي الذي قد تحدث الحياة أو الموت بعد فيلم أو يومين من شؤونه.

التمييز صعب في ليلة الارتعاش الطويل.

(22)

لا يزالون يصرُّون على ارتكاب وطنِ مُسَجَّى.

(23)

أُمَجِّدُ مريم، التَّزكية الأوليَّة في الغياب، وفي الضَّباب، وفي الأسى، وفي النِّصال، والأذى، والنِّضال، وفي السَّيد المسيح، ولدى بيير باولو بازوليني في فيلمه «الإنجيل وِفقًا لمتَّى» (إيطاليا، 1964) الذي أشاد به عديد من الأحزاب الشيوعيَّة والكنائس الكاثوليكيَّة الغربيَّة معًا وفي نفس الوقت بدون أدنى تناقض، والذي أصرَّ، ونجح، المخرج المغدور في أن تؤدي أمه سوزانا (وهي لا تحسن التمثيل أصلًا) دور مريم العذراء.

كل المجد لمريم، وللمجدليَّة، والخطيئة لي وحدي.

(24)

ليس واجبًا ولا حقًّا: النوم إثم.

(25)

ليس الترياق في البحر، وليس الأبد في السحر، وليست الجذوع في النهر، ولم يغادر السُّم أهدابي.

(26)

تغيب الأمَّهات عن كل البيوت (والمنازل).

(27)

في حلوقهم القفطان، وفي تِنِّينهم موكب الأزياء.

(28)

يجلبون المناشف إلى القراءات.

(29)

قليلون يذهبون بالفوانيس، والتَّمر، والصَّلوات إلى ما هو أبعد أو أقرب من خاصرة الشَّجرة المُحْتَطَبَة.

وفي ذات الشأن ها أنا أرى أضواء شاحبة تترنَّح على جنبات الصَّحراء وسفوح الجبال كلما اقتربتُ، في رحلة بالسيَّارة، من ظفار.

(30)

أيها الطريق: لا أحد ينتظر أحدًا هنا.

أيها الطريق: لقد راح الذين ذهبوا.

أيها الطريق: لم يغادرك الذين ذهبوا.

أيها الطريق: هناك ما يدعو إلى ذلك.

(31)

يأتي الحتف قبل وصول النَّظرة.

(32)

يجيء الموت موتًا (لكن ليس بالتَّتابع، ليس بالقصد الذي يحدث في معزوفة موسيقيَّة).

(33)

لا ترفعي ذراعيك نحو السماء. لا تخلعي القميص. المطر سيزورنا.

(34)

أن تكون الشّقة فارغة تمامًا قبل أن تلجأ إليها الفراشات (ولا يحدث الباقي).

(35)

استطابوا المنبر، والقاعة، والفقاعة.

(36)

إنما يريدون أرغفتهم وهَيبتك.

(37)

يتعلَّم الأموات الكثير قبل الأوان، وفي أثنائه، وبعده. أما الأحياء فيتعلمون مرة واحدة فقط).

(38)

ليس للكاميرا أن تعبث بهذه الأظافر (سيموت بلا تصوير، وإضاءة، وصلوات، وأصابع).

(39)

تطالِب الشُّموع بحدوث الجرح أولًا.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني