تواجه اقتصاديات العالم، في معظمها، تحوّلات ومتغيرات وانتكاسات عديدة؛ سواء لأسباب محلية مرتبطة بمحدودية وندرة الموارد وطريقة توزيعها، أو جراء التأثيرات الاقتصادية والسياسية الخارجية المختلفة، بما في ذلك اقتصاديات الدول الكبرى، بمستويات متباينة. بل إن هناك مظاهر فقر لافتة على سبيل المثال في دولة مثل المملكة المتحدة، حيث تشير بيانات وزارة العمل والتقاعد البريطانية (DWP) إلى أن حوالي 17٪ من سكان المملكة المتحدة كانوا يعيشون في دخل منخفض نسبيًا (فقر نسبي) قبل احتساب تكاليف السكن في عام 2023/24، وترتفع هذه النسبة إلى 21٪ بعد احتساب تكاليف السكن (نحو 14 مليون بريطاني) بحسب المنشور في وثيقة مكتبة مجلس العموم البريطاني بتاريخ 4 أبريل 2025 إلى جانب مغادرة أصحاب الثروات من بريطانيا إلى دول أخرى أكثر جاذبية للعيش والنمو الاقتصادي والحوافز.

ورغم وجود مؤسسات عريقة تخرّج أفضل الاقتصاديين والعلماء والعقول على مستوى العالم، مثل أكسفورد وكامبريدج وكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، إلا أنها تعاني ذات التحدي في التعاطي مع تعقيدات إدارة الشأن الاقتصادي كعلم، بوصفه (في بعض التعريفات) ذلك النظام المعقد المكون من المستهلكين والشركات والحكومة التي تنتج وتوزع السلع والخدمات، وتعمل معا لتلبية احتياجات الأفراد والجهات العاملة ضمنه.

وبالتالي، فإن عُمان ليست استثناء من هذه التحوّلات والتأثيرات، لاسيما وأن اقتصادها يعتمد، على نحو واسع، على إيرادات قطاع النفط والغاز. وتظهر نشرة الأداء المالي «الربع الثاني» التي تصدرها وزارة المالية العمانية أن « الإيرادات العامة للدولة شهدت انخفاضًا بنحو 6٪ حتى نهاية الربع الثاني من عام 2025، مسجّلة نحو (5,839) مليون ريال عُماني، مقارنة بتسجيل (6,197) مليون ريال في ذات الفترة من عام 2024م. ويُعزى ذلك، بشكل رئيسي، إلى انخفاض الإيرادات النفطية».

من جانبها، تبذل الحكومة العُمانية جهودا ملفتة وكبيرة للموازنة بين استحقاقات الدين العام، نحو (14.1) مليار ريال، واستكمال بعض المشاريع التنموية، وتمويل مبادرات الحماية الاجتماعية والدعم الحكومي، وغيرها، أفضت إلى استفادة بعض الشرائح خاصة كبار السن والأطفال، فضلًا على التعديلات الواسعة في قوانين التقاعد وصناديقه.

يبقى السؤال في هذه المرحلة الحرجة من التحوّلات الاقتصادية في عُمان: هل تكفي هذه المبادرات المهمة لاحتواء تحدي التوظيف، وإيجاد اقتصاد مستدام، مولّد للوظائف، يسمح باستيعاب المخرجات العُمانية السنوية من مؤسسات التعليم المختلفة سواء في القطاع الحكومي أو الخاص؟ بطبيعة الحال، الأمر ليس كذلك. وأتصور أنه ثمة مساحات معقدة جدًا تستوجب عملا جبارا لإخراجها من حيز الأماني والأحلام والتنظير إلى أرض الواقع، بما في ذلك بعض الاجتهادات الاقتصادية العُمانية، والتي تبدو وكأنها تعمل وفق «منهج التجربة والخطأ»؛ مثلما حصل في مسألة فتح تصاريح الاستثمار بصورة لم تكن موفقة نسبيًا، ووصلت إلى مرحلة تستوجب المراجعة. وكذلك قرارات تحديد الحد الأدنى من الأجور للعُمانيين في القطاع الخاص براتب (350) ريالًا، وما أعقبه من استغلال مؤسف لشرائح واسعة من الخريجين والباحثين عن عمل. والحال نفسه ينطبق الآن على التوجهات الحالية لجذب المستثمرين الجادين عبر منحهم تسهيلات مختلفة بموجب «الإقامة الذهبية»؛ وهي خطوة مهمة إذا ما طُبقت بالشكل الصحيح، دون التفافات لاحقة، وتزامنت مع مزيد من التسهيلات للمستثمرين العُمانيين.

ولا يعني هذا الأمر، بأي حال من الأحوال، انتقاصًا مما أنجزه الفريق الاقتصادي الحالي، الذي قدّم مساهمات كبيرة في إدارة المرحلة الأولى من الاقتصاد العُماني منذ عام 2020، خاصة في احتواء منابع هدر المال العام، وحوكمة الشركات الحكومية، وجهود التنويع الاقتصادي والاستثماري.

لقد نجح النموذج الاقتصادي الحالي في مرحلة تاريخية من عمر النهضة المباركة في التوسع بمشاريع التنمية والخدمات في كافة أرجاء الجغرافيا العُمانية، وتمكين المجتمع، وتعزيز العدالة الاجتماعية، من خلال توفير فرص العمل، والتعليم، والصحة، والإسكان، مما جعل من عُمان دولة حضارية متقدمة نجحت، على نحو حصيف، بالاستفادة من مواردها المحدودة وفق المتاح والممكن، قياسًا بدول أكثر ثراءً وإنتاجًا للنفط والغاز. وهو أمر يُحسب، بكل فخر، للقيادة الرشيدة والحكيمة في الدولة العُمانية، وتجلّت انعكاساته في العديد من المؤشرات الدولية التي حققت فيها السلطنة مراتب متقدمة.

ويؤمل أن يتم الاشتغال في آليات تطوير النموذج الاقتصادي من خلال اتباع فلسفة جديدة تغيّر من «قواعد اللعبة»، لتخرج من الحالة الراهنة، التي تعتمد على إيرادات النفط والغاز، الذي تذهب عائداته لتمويل بنود الرواتب والدعم ومشاريع التنمية، إلى نموذج اقتصادي عُماني أكثر تطورا ومواكبة للتحولات الاقتصادية بحيث يدفع بالمجتمع إلى التكيف مع متطلبات الاقتصادات الجديدة وتحدياتها المستقبلية ومهاراتها ومخاطرها وهزاتها، ويستفيد النموذج المطور من أفضل الممارسات العالمية ويوظف أنسبها في التجربة العمانية ويضع في اعتباره التأسيس على النجاحات الكبيرة المنجزة في النموذج الحالي والتركيز على التوسع في القطاعات المولدة للوظائف مثل القطاع الصناعي والسياحي والزراعي والصحي وقطاع الخدمات إلى جانب التوسع في الاقتصاديات المبنية على المعرفة في ظل وجود قاعدة شبابية فتية متعلمة ليستوعب مزيدا من التطوير بمعنى دمج النموذج الإنتاجي (تنويع الاقتصاد) والمعرفي (التعليم والتكنولوجيا) ونموذج الاقتصاد الأخضر (الطاقة المتجددة) وغيرها من مدخلات جوهرية في المشهد الاقتصادي.

ولا أقصد بتطوير النموذج الحالي أن يكون تحوّلا جذريا في الإطار الفكري والتنفيذي للاقتصاد (Paradigm Shift) فحسب، بل أن يكون أيضا تغييرا كاملا لقواعد اللعبة (Game Changer)، وصولًا إلى تحرير الاقتصاد العُماني من وطأة الاعتماد على النفط على المدى البعيد، وتحقيق الاستدامة الاقتصادية الحقيقية، التي يمكنها التكيف مع تقلبات النفط والغاز، وتحويل التحديات الراهنة إلى فرص استراتيجية لبناء النموذج المنشود، والخروج من عباءة الدولة الريعية إلى الدولة المنتجة بأدوات ومقتضيات القرن الواحد والعشرين. وقد يقول قائل إن «رؤية عُمان 2040» تضع في اعتبارها ما ذُكر، ولكن الرؤية هي بمثابة خارطة طريق، وسنظل بحاجة إلى نموذج اقتصادي عملي مطور، بوصفه ضرورة تاريخية في هذه المرحلة من العهد المتجدد، وهي مسألة منسجمة مع استحقاقات التحوّلات في الاتجاهات الاقتصادية، وضرورات التكيّف، والصلابة الاقتصادية.

ومن الطبيعي أن يستدعي التوسع في الاقتصاد وجهود تطوير النموذج الاقتصادي المأمول إطلاق حوار شفاف وموضوعي ووطني بين كافة أصحاب المصلحة ومن بيدهم القول الفصل، حول المفاهيم الكبرى المسيطرة والمؤثرة على الذهنية العامة في ما يتعلق بالتركيبة السكانية والهوية والخصوصية وقضية التعمين وما إلى ذلك من مكونات ثقافية واجتماعية وتاريخية شكلت هوية المجتمع العماني على ما هو عليه الآن، بمعنى آخر هل نحن جاهزون فعلا على سبيل المثال لتقبل فكرة زيادة عدد السكان بشكل كبير إذا ما أردنا تعزيز الاقتصاد والتوسع في السوق المحلي حيث يرى البعض أن صغر السوق نفسه لا يساعد في التوسع الاقتصادي في مقابل حالة من التحفظ الشديد والحذر لدى بعض الفئات من توابع هذه السياسات وهل يمكننا أصلا بناء اقتصاد مستدام ومرن ومنتج دون فتح الأسواق وزيادة عدد السكان!

على ذات الصعيد، فإن بناء مثل هذا النموذج يقتضي وجود قيادات وعقليات اقتصادية فذّة، يُشهد لها بالكفاءة، والتمكّن في أدواتها الاقتصادية والمعرفية، وخبرتها العملية والميدانية وأفكار خارج الصندوق استجابة لضرورات الواقع ومقتضيات التحوّلات لمواكبة مثل هذا الحراك نحو تطوير الاقتصاد برؤية مدروسة ومنهجية واضحة في دوائر القرار الاقتصادي في البلاد. ولا يفوتني التنويه بأن عُمان لديها طاقات شابة ملفتة، أظهرت قدرات مبهرة في تحويل التحديات إلى فرص للنمو والتطور، وهو ما نشاهده، بكل فخر، في «التجربة النزوانية» وتألق شبابها في إدارة الأنشطة التجارية، والحراك الواعد في محافظة ظفار ومسندم وشمال الباطنة. والقصد من هذا كله أن بنية المجتمع العُماني، بوصفه مجتمعا فتيا، وعلى درجة عالية من التعليم والتأهيل، يمكنه أن ينسجم ويتكامل مع استحقاقات تطوير النموذج الاقتصادي المنشود، ويمتلك كافة الأدوات للمشاركة في آلياته والارتقاء بعُمان الراهن إلى عُمان المستقبل.

يحيى العوفي كاتب ومترجم عماني