تكشف الحروب الكبرى، دائما، حدود النظم السياسية وقدراتها، وتضع النظريات السياسية على محك الاختبار لمعرفة قدراتها على الصمود في لحظات الحقيقة وفي التفاصيل الميدانية. ومنذ عامين تقريبا تضع الحرب الوحشية على قطاع غزة النظم والنظريات السياسية والنظام العالمي المبني على أطروحة «الديمقراطية الليبرالية» أمام امتحان وجودي لإثبات ما إذا كانت الديمقراطية الغربية التي تحدث عنها فوكوياما في أطروحته «نهاية التاريخ» هي النموذج الكوني الأسمى الذي لا نموذج بعده.

لم تقتصر الحرب على غزة على إعادة أسئلة التعايش والقيم المشتركة، بل فتحت أيضا نقاشا أعمق حول قدرة الديمقراطية الليبرالية على امتلاك شرعية كونية أم أنها تظل صيغة سياسية محدودة بسياقها الغربي.

كشفت أحداث غزة ثلاث فجوات جوهرية في السردية الليبرالية. الفجوة الأولى هي فجوة الكونية. النظام الذي يرفع شعار «حقوق الإنسان» وجد نفسه عاجزا عن حماية أبسط هذه الحقوق حين تعلق الأمر بشعب محاصر يتعرض للقصف والتجويع. أوامر محكمة العدل الدولية بوقف العمليات العسكرية في رفح والسماح بدخول المساعدات بقيت حبرا على ورق، في ظل استمرار الدعم العسكري الغربي لإسرائيل. وبدا معيار الحقوق هنا انتقائيا؛ يُطبق بصرامة على خصوم الغرب، ويتلاشى أمام حلفائه.

الفجوة الثانية تتعلق بسيادة القانون. تأسست الديمقراطية الليبرالية على قاعدة «لا أحد فوق القانون»، لكنّ المذكرات الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق قادة إسرائيليين قوبلت بالرفض السياسي من عواصم ديمقراطية كبرى، بدلا من التعاطي معها بوصفها آلية قضائية ملزمة. إذا كان القانون الدولي يتحول إلى أداة سياسية لا تُفعل إلا ضد الخصوم، فإن الادعاء الكوني لحكم القانون يفقد معناه.

الفجوة الثالثة هي فجوة الفضاء العام، أي المجال الذي يُفترض أن يتيح حرية التعبير والنقاش والاحتجاج السلمي. لكن الجامعات الغربية شهدت موجة غير مسبوقة من القيود على النشاط الطلابي المناصر للفلسطينيين. خُلط انتقاد السياسات الإسرائيلية بمعاداة السامية، وجرى تقييد النقاش الأكاديمي والإعلامي. في لحظة كان يفترض فيها أن يثبت الفضاء العام أنه مساحة حرة، ظهر هشا أمام ضغط السياسة والتحالفات.

إلى جانب هذه الفجوات، ثمة مؤشر بالغ الدلالة يتمثل في مقتل أكثر من 246 صحفيا في غزة ـ أي ما يفوق حصيلة حروب عقد كامل في مناطق أخرى ـ في ما وصفته لجنة حماية الصحفيين بأسوأ حصيلة سنوية على الإطلاق.. فحين يُقتل الصحفيون بوتيرة غير مسبوقة ولا يتحرك النظام الدولي الذي يرفع شعار «الصحافة ليست جريمة»، فإن القيم التي تقوم عليها الديمقراطية الليبرالية نفسها تصبح موضع شك.

هذا الانكشاف لا يعني أن البدائل السلطوية أكثر إقناعا؛ غير أن فشل البدائل لا يمنح الديمقراطية الليبرالية شيكا مفتوحا، فالشرعية لا تُبنى على غياب المنافس، بل على القدرة على الاتساق بين المبدأ والممارسة.

لكن لا بد من الإشارة إلى أن هناك جيوب مقاومة لا يستهان بها داخل الدول التي تقدم نفسها بأنها ديمقراطية ليبرالية؛ حيث صدرت قرارات قضائية في بعض الدول الأوروبية بوقف بعض صادرات السلاح، وهناك اعترافات من بعض الدول بالدولة الفلسطينية، وهناك اعترافات منتظرة هذا الشهر على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، وهناك حركات مدنية ترفع الصوت عاليا دفاعا عن الحقوق الإنسانية.. غير أن هذه المبادرات، على أهميتها، لا تغيّر الصورة العامة لانكشاف المبدأ أمام مصالح القوة. وإذا كانت المراجعات الحديثة لأطروحة «نهاية التاريخ» لفوكوياما قد أشارت إلى أنه لم يقل إن الديمقراطيات الليبرالية مطبقة بالكامل، بل إنها تمثل النهاية المعيارية للتاريخ.. لكن هذه النهاية تفترض أن المبدأ يمكن أن يصمد في مواجهة مصالح القوة.. غزة ترد على مثل هذا الاعتراض فقد كشفت أن المبادئ تراجعت في الوقت الذي اصطدمت فيه بالتحالفات وبالسلاح وبالسوق!

إن المشكلة الكبرى التي يواجهها العالم ليس في غياب البديل للديمقراطية الليبرالية، وليست في محاولة إثبات سقوط أطروحة «نهاية التاريخ» ولكن في حجم الهوة بين القيم المعلنة والممارسات الواقعية، بين ما نسمع ونقرأ عن قيم النظام العالمي وبين ما نرى ونعيش من التفاصيل الميدانية!

ولا يبدو أن هذا الأمر عارض في غزة فقط ولكن من يتتبعه يجده أساسيا منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي وإلى اليوم خاصة عندما يتعلق الأمر بالعالمين العربي والإسلامي وبشكل عام في دول الجنوب العالمي.

قد لا تسقط غزة أطروحة نهاية التاريخ. لكنها بالتأكيد عرّت محدوديتها. والتاريخ لم يتوقف عند الديمقراطية الليبرالية، بل كشف أنها، في لحظة الحقيقة، نموذج بلا قدرة على الوفاء بوعده الكوني.