في عام 1987 وُلِد ابن خالتي سعيد الذي لم يقدر الله له أن يرى أباه، فقد توفي في حادث سير أليم وهو لا يزال جنينا في الشهر السابع. قررت الأم أن تسميه باسم أبيه فصار (سعيد سعيد). وهكذا فإن ابن خالتي الذي لا شك أنه نشأ حزينا لفقدانه أباه، شب أيضا -من خلال اسمه- «سعيدًا» بشكل مضاعف. هو بطريقة أو بأخرى تعويض عن أبيه، مثلما كنتُ تعويضًا عن جدي، وقد سردتُ في مقال الأسبوع الماضي حكاية تسميتي باسمه. لكنني في هذا المقال سأتوقف عند 3 مبدعين جاؤوا إلى هذه الدنيا تعويضًا عن الأخ المفقود، أو هكذا تصوروا في الأقل، وهو ما سبب لهم ارتباكًا وجوديا كبيرا، كما سنرى.
أول هؤلاء هو أديبنا العماني عبدالله حبيب الذي روى لي في حواري معه في كتاب «ليس من زماننا» أنه حين تزوج والداه كان بكرُهما ذكَرًا أسماه الشيخُ حبيب: «عبدالله» تيمنًا بأبيه عبدالله بن محمد المعيني، الذي كان شيخا فقيها وقاضيا. لكن الولد مات صغيرا، وبعد عدة سنوات ولد للشيخ حبيب طفل آخر سماه أيضا عبدالله الذي سيصير عبدالله حبيب المعروف لدينا اليوم. يقول عبدالله إنه «تعويض» عن عبدالله الذي رحل طفلًا، وإنه حين تدرج قليلًا في الحياة والوعي أدرك مأساة أنه خرج من بطن أمه وهو يحمل على كتفه «اسمين وموتين»: اسم جده عبدالله وموته، واسم أخيه عبدالله وموته. ومن هنا جاء وصفه لنفسه بأنه «موت مضاعَف يمشي على رِجْلين».
المفارقة المدهشة هنا أن حكاية عبدالله حبيب مع أخيه وجده، تكاد تكون تكرارًا حرفيًّا تقريبا لحكاية الرسام الهولندي الشهير فنسنت فان جوخ. فهذا أيضا سمي باسمه تعويضا عن شقيق راحل وتيمنًا بجدّ له مكانة دينية. ولد فنسنت في 30 مارس 1853، بعد عام واحد فقط من وفاة شقيقه الرضيع الذي وُلِدَ ومات في اليوم نفسه، وكان اسمه أيضا فنسنت فان جوخ. أما جده الذي حمل الاسم ذاته فقد كان أحد رجال الدين المسيحي وعاش في الفترة ما بين عامي 1789 و1874. غير أن المحلل النفسي الأمريكي هارولد ب. بلوم (الذي هو بالمناسبة ليس الناقد الأدبي المعروف) ركز فقط على كون الرسام الشهير «طفلًا بديلًا» في دراسته التي نشرها عام 2009 في الدورية الأمريكية لجمعية التحليل النفسي بعنوان: «فان جوخ وهاجس الاستبدال: بين صورة المضاعَف وظلّ التوأم». يشرح بلوم متلازمة ما يسميها «الطفل البديل» (replacement child) باعتبارها ميل المرء إلى الشعور بأنه تجسيد لطفل ميت سُمِّيَ باسمه. ما يفاقم هذا الشعور لدى فان جوخ -عدا الاسم- أنه حمل في سجلات المواليد الرقم نفسه الذي كان قد حمله شقيقه المتوفى وهو الرقم 29، إضافة إلى أنه كان يمر وهو طفل على قبر أخيه ويشاهد اسمه الكامل على الشاهدة!
يقول بلوم إن تأملات فان جوخ عن الموت والولادة من جديد، والازدواجية والتوأمة، أثّرت عليه في مسارين: مرضه النفسي وإبداعه الفني، ويربط بين لوحاته الذاتية وكونه «طفلًا بديلًا»، موضحا أن هذه اللوحات يمكن قراءتها بأنها تكشف عن حاجته لتبرير وجوده، ومحاولة التفوق على شبيهٍ أو توأم، وتخطي الموت من خلال الخلود الفني.
بعد انتحار فان جوخ بأربع عشرة سنة فقط، أي عام 1904 وُلِد في مدينة فيغراس الإسبانية رسام شهير آخر، هو الابن الثاني لوالديه، وذلك بعد ثلاث سنوات فقط من وفاة أخيه في عمر السابعة. لذا فقد سماه الوالدان «سلفادور»، على اسم شقيقه الميت، والذي سيصبح فيما بعد الفنان الشهير سلفادور دالي. يروي الباحثان سوزانا مارتينيز-كوندي وستيفن ل. ماكنيك؛ أستاذا طب العيون والأعصاب والفسيولوجيا بجامعة SUNY داونستيت الأمريكية في مقال مشترك نشراه في مجلة «ساينتيفك أمريكان» أن دالي كان ينظر لنفسه دائما أنه «ظلّ شقيقه الراحل». فقد تشابه الاثنان تشابهًا مدهشًا. وهذا ما يؤكده الفنان بقوله: «حين كان أبي ينظر إليّ، كان يرى مُضاعَفي بقدر ما يراني». ومثله مثل فان جوخ فقد بدأت عقدة دالي من أخيه في سن مبكرة، يقول إنه مما زاد من ثقل هذا العبء اللاواعي أن غرفة نوم والديه كانت تضم صورة مهيبة لأخيه الميت، بجانب نسخة من صورة المسيح المصلوب كما رسمها دييغو فيلاسكيث. وزاد الأمر سوءًا أنه -أي دالي- كان صورة طبق الأصل من شقيقه الراحل، كما سبقت الإشارة. كتب في سيرته الذاتية «الحياة السرية لسلفادور دالي»: «كنتُ وأخي نتشابه كما تتشابه قطرتا ماء، لكننا كنا نعكس صورتين مختلفتين [..] كان هو على الأرجح المسوّدة الأولى لوجودي، خُطّت بحبر المطلق». وقد ترك هذا الاعتقاد أثرًا غائر العمق في فنه؛ إذ تكررت صورة الازدواجية في لوحاته، مثل لوحة «بورتريه أخي الميت» التي أنجزها عام 1963، حيث يظهر فيها مزيج مركّب من الفنان وأخيه. ومن يدري فلعل حرص دالي على تطويل شاربه بشكل مبالغ فيه كان طريقته ليقول لأخيه الميت: «أنا أختلف عنك».
كثيرون منا يحبون أسماءهم بالتأكيد، لكن الاسم يصبح أحيانًا حِملًا ثقيلًا، خصوصًا إذا ما جعل المرء مجرد ظل لشخص آخر. لكن المؤكد أن القيمة الحقيقية لأسمائنا تأتي بعد التسمية لا قبلها، أي فيما نفعله نحن بها، لا ما تفعله هي بنا، في تحويلنا إياها من قدر مفروض إلى مصير نصنعه بأنفسنا.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني