ألزمت نفسي بالمرور عليه خلال زيارتي للبلدة؛ للاطمئنان على صحته أولًا، ولأحظى بشرب قهوته التي يُطلق عليها مُدلعًا «العدينية»، ولكي أتلافى شِدة هجومه الذي لن أسلم منه إذا ما علِم أنني موجود في البلدة ولم أزره.
اغتنمت فرصة ما قبل صلاة الجمعة. داهمته في «السبيلة» الصغيرة التي بناها منفصلة عن منزله الوادعِ بين أشجار النخيل والليمون. سبقتني رائحة القهوة إلى المكان.
ابتهج الرجل وهلّل عندما دخلت عليه سبلته دون موعد. فتح كيس تمر «فرض حايل»؛ ربما لأن السكري يحولُ بينه وبين «الخلاص» محبوب العمانيين، أو لأنه مطمئن أن بيني وتمر «الفرض» صداقة قديمة ومتجذرة.
أمر الوالد ابنه وابتسامة ماكرة تطفرُ من مُحياه: «دهديه ياولد جيب التقدوم، وصجرجة الماي وقربهن، لكن قبل دحق البانكة، وعِت روح صلي». وبعد مدة قصيرة عاد الولد بقنينة ماء «مفلتر»، فسأله: «هين الصجرجة»؟ تسمر الابن في مكانه؛ فهو لا يعرف المطلوب منه، ولا اللغة التي يتحدث بها والده هذا الصباح.
بدا الوالد مُنتشيًا، وهو يلعب لعبة المفردات المنسية مع ابنه، واصل: «إذا ما عرفت ماشي مشكلة، روح جيب لجن الخضرة وأنته مرخوص». وما كان من الشاب إلا أن بُهت متسائلًا: «ماله الوالد اليوم»؟ ضحكت من كل قلبي. طلبتُ من الشاب أن يذهب بعد أن استأذنت والده توجهت له: هل ستفهم ماذا يقصد الشخص إذا قال لك: «انته شايب كيوت»؟ رد: «لا والله»، أضفت: «طيب وإذا سمعت شخصًا يقول: «إن الأمور جيرباكس أو في الروب؟» رد: «حاشا لله» فقلت له: «إذًا لا تثريب على ابنك؛ كونه لم يفهم ما تريد، ما يدريه معنى كلمات مثل: «دهديه وتقدوم ودحق وصجرجة؟ وهو ربما يسمعها للمرة الأولى»! وأنا أُفرغ الفنجان الثالث من «العدينية» التي لا يعرف سر تحضيرها غيره طلبت منه أن يتجهز لنذهب معًا للصلاة، قال: «نعم، تكاكالي شوية، أنْهم الولد يناولني مصري من لغدان»، وما هي إلا دقائق، وكان الرجل يجلس إلى يميني في السيارة.
في «الرستة» استأنفنا حديثنا حول جمال وتفرد اللهجات العُمانية المحلية، والواجب عمله من أجل نقلها كتراث معنوي للأجيال القادمة، ودور الجهات الرسمية في توثيقها وحفظها من خلال إعداد المعاجم المتخصصة، وإجراء الدراسات المعمّقة، وعمل البحوث العلمية حول أصولها ومصادرها، سيما وأن جذورها، تعود في الغالب إلى اللغة العربية الفصحى.
النقطة الأخيرة..
نسبة عالية من المفردات التي نستخدمها في لهجاتنا المحلية المتعددة ترجع أصولها إلى اللغة العربية الفصحى؛ لذا وجب تنظيم هذا الوجه الوضيء من وجوه تراثنا بتداوله، وتطويره، وتدوينه، وحفظه، ونشره.
عُمر العبري كاتب عُماني