مرّت 10 أعوام منذ أن أعلنت أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية آنذاك، عبارتها الشهيرة: «Wir schaffen das» – أي «يمكننا أن نفعل ذلك» – في مواجهة أزمة الهجرة الجماعية التي اجتاحت أوروبا. الأسبوع الماضي، ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال: «للمرة الأولى، تتصدر أحزاب شعبوية أو يمينية متطرفة استطلاعات الرأي في المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا». أما في المجر وإيطاليا وهولندا والسويد، فهذه الأحزاب بالفعل في السلطة أو ضمن الحكومات، ناهيك عن الولايات المتحدة.
القول إن توجه الغرب نحو اليمين المعادي للهجرة كان نتيجة متوقعة لقرار ميركل الكارثي بفتح حدود ألمانيا لا يعني أنه لا تزال هناك دروس تستحق أن نتعلمها من تلك التجربة – ليس أقلها بالنسبة للحزب الديمقراطي الأمريكي، الذي يبدو اليوم أكثر الأحزاب الكبرى تخبطًا في العالم.
منذ نحو 20 عامًا، وربما قبل ذلك بقليل، وُلدت للديمقراطية الليبرالية شقيقتان غير متطابقتين: الديمقراطية ما قبل الليبرالية، والديمقراطية ما بعد الليبرالية.
الديمقراطية ما قبل الليبرالية تقبل مبدأ الانتخابات المنتظمة، لكنها ترفض معظم القيم الجوهرية لليبرالية: حرية التعبير والتسامح الأخلاقي، الحريات المدنية وحقوق المتهمين، سيادة القانون واستقلال القضاء، مساواة المرأة، وما إلى ذلك. تركيا في عهد رجب طيب أردوغان الطويل تمثل هذا النموذج، وكذلك مصر في عهد الإخوان المسلمين القصير بقيادة محمد مرسي.
أما الديمقراطية ما بعد الليبرالية، فهي على العكس؛ تتبنى قيم الليبرالية لكنها تسعى إلى تحصين نفسها ضد إرادة الشعوب. الاتحاد الأوروبي، بهيكليته الواسعة من التشريعات العابرة للحدود، مثال على ما بعد الليبرالية. المحاكم الدولية التي تصدر أحكامًا بلا ولاية قضائية مثال آخر. الاتفاقيات البيئية العالمية، مثل بروتوكول كيوتو واتفاق باريس (الذي وقّعته إدارة أوباما ولم يصادق عليه الكونغرس)، تمثل وجهًا ثالثًا لها.
وبين هذين النموذجين، تقف الديمقراطية الليبرالية الكلاسيكية. مهمتها إدارة التوتر أو تهدئة التضاد بين ضرورات متنافسة: أن تقبل حكم الأغلبية وتحمي في الوقت نفسه حقوق الأفراد؛ أن تدافع عن سيادة الأمة مع الحفاظ على روح الانفتاح؛ أن تصون مبادئها التأسيسية مع القدرة على التكيف مع التغيير. فإذا كانت علة الديمقراطية الليبرالية أنها تميل إلى المضي بخطوات نصفية، فإن فضيلتها أنها تتقدم على أرض أكثر صلابة وأمانًا.
ذلك هو المثال الذي تخلّى عنه معظم الغرب في السنوات الأخيرة. فسواء عند اليسار السياسي أو حتى يمين الوسط، كانت سياسات ما بعد الليبرالية هي التي تحدد بدرجة كبيرة الإجابة عن أكثر سؤالين جوهريين في السياسة: من «نحن»؟ ومن يملك حق اتخاذ القرار بالنيابة عنّا؟
لم تلجأ ميركل إلى موافقة الناخبين الألمان حين خففت قوانين الهجرة وفتحت أبواب البلاد أمام ما يقارب مليون لاجئ في عام واحد. والأمريكيون لم ينتخبوا جو بايدن على أساس وعد بفتح الحدود الجنوبية أمام ملايين المهاجرين. أما البريطانيون، الذين صوّتوا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، فلم يتصوروا أن بلدًا لا يتجاوز عدد سكانه 69 مليون نسمة سيستقبل 4.5 مليون مهاجر بين عامي 2021 و2024 ــ وذلك في ظل حكومات يقودها المحافظون أنفسهم.
ليس غريبًا إذن أن يقابل هذا الإرث من الحكم «ما بعد الليبرالي» برد فعل شعبي يتجه نحو نقيضه «ما قبل الليبرالي». صحيح أن أحزاب اليمين الشعبوي ليست على صورة واحدة؛ فالفاشية المقنّعة التي تمثلها البديل من أجل ألمانيا تختلف عن المحافظة البراغماتية التي تجسدها جورجيا ميلوني في إيطاليا. لكن جميع هذه الأحزاب صعدت من بوابة الشكوى ذاتها أن حكومات ما بعد الليبرالية لجأت إلى آليات قانونية غامضة أو تجاهلت القانون تمامًا لتفرض تحولات اجتماعية لم ينل أصحابها موافقة المجتمع الصريحة. في أمريكا، يُختزل ذلك فيما يسمى بـ «نظرية الاستبدال»
الليبراليون والتقدميون يرفضون هذه النظرية عادة باعتبارها ديماغوجية عنصرية ومعادية للسامية، ولا شك أن ثمة متطرفين يؤمنون بها. لكن ربما يجدر منح شيء من الفهم للناخبين العاديين الذين يتساءلون ببساطة: لماذا يُطلب منهم أن يشعروا بأنهم غرباء في أوطانهم؟ أو أن يدفعوا ضرائبهم لمصلحة وافدين لم يوافقوا أصلًا على استقبالهم؟ أو أن يتحملوا التسامح مع من لا يظهرون التسامح بالمقابل؟ أو أن يُطلب منهم الصمت إزاء بعض الجرائم المروعة التي ارتكبها مهاجرون؟
ما يشعر به أغلب هؤلاء الناخبين ليس عنصرية، بل سخط ناتج عن وصف هواجسهم السياسية الطبيعية والمشروعة بالعنصرية. وطالما استمرّ الساسة والمعلقون من الطبقة السياسية التقليدية في معاملتهم بهذه الصورة، فسوف يواصل اليمين المتطرف صعوده وازدهاره. هناك ما يمكن أن يفعله أنصار يمين الوسط ويسار الوسط: بدلًا من التلميح بخجل إلى أن ميركل أو بايدن أخطآ في سياسة الهجرة، أو القول إن القرار كان صائبًا أخلاقيًا واقتصاديًا لكنه غير حكيم سياسيًا، عليهم أن يدركوا أن ضبط الحدود شرط لا غنى عنه للسيادة الوطنية، وأن الهجرة الجماعية بلا تفويض تشريعي صريح أمر غير مقبول سياسيًا، وأن المهاجرين ينبغي أن يتبنّوا قيم الدولة المضيفة لا أن يرفضوها، وأن المجتمعات المضيفة لا ينبغي أن تُجبر على التكيف مع قيم تتعارض مع طبيعة المجتمع الليبرالي. في تلك اللحظة، يمكن للأمل أن يعود بأن تستعيد الديمقراطية الليبرالية قيمها، بما في ذلك تقدير فضائل المهاجرين وما يضيفونه من ثراء إلى المجتمعات. أما إلى أن يحدث ذلك، فستظل الموجة «ما قبل الليبرالية» في تصاعد مستمر.
بريت ستيفنز كاتب عمود رأي في نيويورك تايمز، يكتب عن السياسة الخارجية والسياسة الداخلية والقضايا الثقافية.
خدمة نيويورك تايمز
تمت الترجمة باستخدام الذكاء الاصطناعي