بعد صدور نتائج مؤشر جودة الحياة بحصول سلطنة عُمان على الترتيب الأول عربيا والرابع عالميا للعام (2025)، لم تعط تلك النتيجة ذلك القدر من الأهمية والتحليل حالها حال المؤشرات العالمية الأخرى سواء على مستوى الجهات الراعية للمؤشرات الدولية، وأيضا على مستوى الأفراد. على عكس ذلك ساور البعض علامات الشك والاستغراب في مصداقية تلك النتائج والأكثر من ذلك هل حقا سلطنة عُمان استطاعت الوصول لتلك المرتبة والتي تجاوزت دولا تتربع على صدارة المؤشرات الدولية ومنها فنلندا وسويسرا والنرويج. ولكي نقطع ذلك الشك نحتاج إلى البحث والتقصي في ترتيب سلطنة عُمان بمؤشر جودة الحياة لعلنا نصل إلى حالة من التلاقي لبعثرت بعضا من تلك الشكوك في ظل المنافسة الخليجية والدولية للحصول على مراتب أفضل وخاصة عندما يتعلق الأمر بجودة الحياة.
مؤشر جودة الحياة والذي تقوم بجمع بياناته منصة (Numbeo) يقيس جودة الحياة عن طريق استخدام مجموعة من المؤشرات الفرعية يصل عددها إلى ثمانية. أربعة من تلك المؤشرات كلما ارتفعت كلما كانت الجودة أفضل وهي: مؤشر القوة الشرائية، مؤشر السلامة، مؤشر الرعاية الصحية ومؤشر المناخ. والأربعة الأخرى، الانخفاض في درجاتها يعتبر دليلا على جودة الحياة في الدولة التي يتم تجميع بياناتها وهي: مؤشر التلوث، نسبة سعر المسكن بالمقارنة بالدخل الفردي، مؤشر تكلفة المعيشة، ومؤشر وقت التنقل المروري.
المؤشر تم تصميمه لقياس جودة الحياة، حيث يعتمد على العوامل الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية. على سبيل المثال، يتم احتساب مؤشر القوة الشرائية على أساس مقارنة مستوى الدخل المحلي بتكاليف السلع الأساسية، بينما يعتمد مؤشر السلامة على معدلات الجريمة التي يتم التبليغ عنها. في حالة سلطنة عُمان يتضح التوازن في النتائج بين تلك العوامل حيث حققت درجات عالية في معظم تلك العوامل ما رفع النتيجة النهائية إلى درجة (215.1) والتي تجاوز كثيرا المتوسط العالمي الأمر الذي قد يعكس أن هناك تأثيرا مباشرا لأهداف ومبادرات رؤية عمان في رفع مستوى جودة الحياة حيث كانت في المرتبة (17) قبل خمس سنوات واستمرت في الارتفاع حتى وصلت للترتيب الرابع عالميا بداية ومنتصف عام (2025).
المؤشر يعتمد على منهجية آراء المستخدمين وتصوراتهم. كما يعتبر من المؤشرات القلة التي يتم نشر نتائجها مرتين في العام، ما يعطي درجة جيدة من المصداقية وسرعة اكتشاف أي خلل أو أخطاء. أيضا هناك مؤشران لقياس جودة الحياة. الأول على مستوى الدول ويضم (89) دولة حول العالم والثاني على مستوى المدن والعواصم ويضم (279) مدينة. سلطنة عُمان حصلت على ترتيب متقدم جدا على مستوى الدول، ولكن حصلت في المقابل على الترتيب (33) على مستوى المدن والعواصم العالمية. في هذا المقال سوف يتم التركيز على النتائج على مستوى الدول مع تحليل بعض من المؤشرات الفرعية.
بالنسبة لمؤشر تكلفة المعيشة فهو يقيس أسعار الخدمات والسلع الاستهلاكية ومنها: أسعار البقالة، الطعام، والنقل، والمرافق كما إنه لا يشمل أسعار إيجار السكن أو نسبة التمويل السكني. كما إنه يستخدم بيانات أسعار مدينة نيويورك كخط أساس بنسبة (100%)، وبالتالي، كلما انخفضت تكلفة المعيشة في الدولة التي يتم قياسها عن تلك النسبة كلما كان ذلك مؤشرا على جودة الحياة. النسبة التي حصلت عليها سلطنة عُمان في هذا المؤشر هي (39.3%) التي تعتبر الأقل قياسا بين الدول الخليجية وهي: قطر والإمارات والسعودية والكويت. عليه تلك النتيجة قد تعكس الواقع الفعلي حيث من المتعارف عليه بأن تلك الدول الخليجية تكلفة المعيشة بها أعلى من سلطنة عمان.
مؤشر التلوث يتم جمع بياناته عن طريق دمج البيانات المتعلقة بالتلوث المستقاة من المؤسسات الدولية المعنية بالتلوث مع آراء مستخدمي المنصة المتعلقة بمؤشر جودة الحياة الذين يعرضون انطباعاتهم الإيجابية أو السلبية عن مستوى التلوث في الدولة التي يقدمون رأيهم عنها. من معايير تحديد مستوى التلوث ما يتعلق بالتخلص من القمامة ومستوى النظافة وتلوث الهواء والتلوث الضوضائي ومستوى توفر المساحات الخضراء. وبالتالي، النتائج تشير بأن مستوى التلوث في سلطنة عُمان في مستوى منخفض حيث وصلت النسبة إلى (36.4%) مع مستويات أعلى بأغلب دول الخليج العربية. كما تنسجم تلك النتيجة مع نتائج مؤشر الأداء البيئي والذي حصلت فيه سلطنة عُمان على المرتبة (55) عالميا. وبالتالي، انخفاض مستوى التلوث يبرز تأثير الجهود المبذولة في الحد منه حسب الآليات والمبادرات المضمنة بالاستراتيجية الوطنية طويلة المدى للحياد الكربوني الصفري.
بالنسبة لمؤشر السلامة أو الأمان، والذي قد يكون نتيجة عكسية لمستوى الجريمة بمعنى كلما ارتفع المؤشر كلما اعتبرت الدولة آمنة. حصلت سلطنة عُمان على درجات متقدمة جدا في مؤشر السلامة تجاوزت نسبة (80%). يقيس مؤشر السلامة مدى شعور المواطنين والمقيمين بالأمان ليلا ونهارا، وألا تكون هناك مخاوف من عمليات السطو والسرقة والاعتداءات الجنسية والحوادث التمييزية بين الأفراد. مع العلم بأن هناك أربع دول منها ثلاث دول خليجية - من الدول المضمنة بمؤشر جودة الحياة - وصلت أو تجاوزت تلك النسبة وهي: سلطنة عُمان والإمارات وقطر وتايوان. مع ذلك قد يكون مناسبا قيام الجهات المختصة بإيجاد آليات أكثر فاعلية للحد من حالات السرقة والتي غالبا ما يكون مرتكبوها من العمالة الوافدة. في الجانب الآخر فإن أغلب الدول الغربية والتي تصنف نفسها بالمتقدمة فإنها تعاني من انخفاض مستويات الأمان مع انتشار حالات السرقة وزيادة معدلات الجريمة.
من المؤشرات المهمة لتحديد جودة الحياة المؤشر الفرعي الذي يقيس مستوى الرعاية الصحية سواء كان على مستوى الدولة أو المدينة. فجودة الرعاية الصحية يتم قياسها في الجوانب المتعلقة بتكاليف الرعاية الصحية، وكفاءة الأطباء والموظفين، ومدى توفر الأجهزة والمعدات الطبية التي تستخدم في العلاج والتشخيص الطبي. وإن كانت النسبة التي حصلت عليها سلطنة عُمان في الرعاية الصحية وهي (63.3%) لا تزال مرضية والتي جاءت أعلى من دولة الكويت والمملكة العربية السعودية، إلا أنها في المقابل أقل من قطر التي جاءت في المرتبة الأولى والإمارات العربية ثانيا على المستوى الخليجي. وإن كانت هناك جهود ملموسة لتحسين مستوى الرعاية الصحية ولكن تحتاج الرعاية الصحية لتغطي جميع المناطق والمحافظات للحد من حالات تحويل المرضى من المحافظات إلى محافظة مسقط نظرا لمركزية المستشفيات التي تقدم العمليات الجراحية التخصصية. بيد أن مشاريع المستشفيات المرجعية التي أغلبها في مراحل الإنشاء سوف تعمل على رفع مستوى جودة الرعاية الصحية إلى مستويات أفضل. ولعل ذلك قريبا حيث تم الإعلان عن افتتاح مستشفى السويق - خلال شهر- نوفمبر القادم.
يظل مؤشر وقت التنقل المروري الحدث اليومي وخاصة في بداية العام الدراسي والمناسبات الدينية في سلطنة عُمان. ويتضمن المؤشر جوانب منها، وقت التنقل، عدم الرضا عن الوقت الذي يقضى في حركة المرور، انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (CO2)، وكفاءة نظام المرور. مع ذلك فإن نتيجة المؤشر المتعلق بوقت التنقل المروي غير مرتفعة وجاء بنسبة (24.3%) وبالتالي، يعتبر التنقل المروري في العاصمة مسقط ضمن الحدود الزمنية المعقولة والتي لا تجاوز نصف ساعة في الاتجاه الواحد حيث تعتبر الأقل بين العواصم الخليجية.
ختاما فإن المرتبة المتميزة لترتيب سلطنة عُمان في مؤشر جودة الحياة لم تأت مصادفة وإنما بعمل منظم في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي يغطيها المؤشر. كما أن المؤشر ليس معنيا بمستوى الدخل أو الرواتب أو تصنيف الدول سواء كانت نامية أو متقدمة لتحديد جودة الحياة بها. عليه الأمل من الجهات الحكومية المعنية أن تأخذ الترتيب الذي حصلت عليه سلطنة عُمان ليكون انطلاقة نحو الأفضل لزيادة فاعلية جوانب جودة الحياة للمواطن والمقيم.
د. حميد بن محمد البوسعيدي خبير بجامعة السلطان قابوس