بعد أكثر من نصف قرن على حرب عام 1967 العربية ـ الإسرائيلية، وصدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 ــ الذي أرسى مبدأ انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الحرب مقابل السلام والأمن ــ لم يحقق الإسرائيليون والفلسطينيون أي تقدّم جوهري، ناهيك عن أن يكون تقدّمًا دائمًا، في معالجة خلافاتهم الجوهرية. 

لقد آن الأوان لتغيير ذلك، فما تبقى من فرصة ضئيلة لتحقيق تقدم نحو اتفاق دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين ــ اتفاق يخدم مصالح الطرفين ــ يتلاشى بسرعة، فالعوائق السياسية والواقعية أمام التوصل إلى تسوية سرعان ما ستبلغ نقطة اللاعودة. 

تجد إسرائيل نفسها اليوم في بيئة أمنية مواتية لم يسبق لها مثيل؛ فالمخاطر على حدودها وفي محيطها الإقليمي تراجعت إلى حد بعيد، إن لم تكن قد أُزيلت، ولم تكن في موقع أفضل من الآن للتعامل مع التحدي الاستراتيجي الذي يطرحه القوميون الفلسطينيون، وهو تحدٍّ يتطلب استجابة سياسية بقدر ما يتطلب استجابة عسكرية. 

لكن هذه البيئة لن تدوم إلى الأبد، فمع أن لإسرائيل صديقًا في البيت الأبيض مستعدًا لدعمها بطرق مهمة، إلا أن الدعم الأمريكي والأوروبي على المدى الطويل ليس مضمونًا، خاصة إذا تزايدت قناعة الأمريكيين والأوروبيين بأنها دولة منبوذة تحرم الآخرين من حقوقهم. 

تواجه إسرائيل خيارا صارخا: فإما أن تقدم على محاولة جادة للتوصل إلى تسوية والتعايش السلمي مع الفلسطينيين، أو تخاطر بخسارة الدعم الدولي الذي تحتاجه من أجل رفاهها على المدى الطويل، ورغم أن فكرة حل الدولتين باتت بغيضة لدى كثير من الإسرائيليين، فإنها لا تزال الأمل الأفضل لازدهارهم وأمنهم. أما أن يكون للفلسطينيين دولتهم، فهذا أمر بديهي من حيث ضرورته لهم، لكنه سيكون أيضا في مصلحة إسرائيل نفسها؛ بل إن المساهمة في قيام دولة فلسطينية قد تعود بالنفع على إسرائيل بقدر ما تفيد الآخرين. 

مهمة شاقة 

اقترب الإسرائيليون والفلسطينيون أكثر من مرة من التوصل إلى اتفاق «الأرض مقابل السلام»، لكن خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، أخفقت الدبلوماسية إلى حد كبير، بسبب رفض القادة الفلسطينيين ــ ياسر عرفات، الرئيس السابق للسلطة الفلسطينية، وكذلك خلفاؤه ــ أو عجزهم عن قبول ما عرضته إسرائيل فيما يتعلق بالأراضي، ووضع القدس، وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. أما معارضة حركة حماس للسلام فكانت وما تزال أعمق جذريا؛ لأنها تفترض القبول بالدولة اليهودية كجزء دائم من المنطقة. 

لقد كانت كلفة هذا الرفض الفلسطيني لحلّ الدولتين القائم على التسوية عالية، فأكثر من خمسة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وغزة ما زالوا يعيشون تحت السيطرة الإسرائيلية لا تحت سيادتهم الخاصة. كما أصبح من الأصعب بكثير التوصل إلى تسوية دبلوماسية مماثلة لتلك التي رفضتها القيادة الفلسطينية في الماضي. 

ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى تغيّر الأوضاع على الأرض؛ إذ ظهرت عقبات إضافية أمام السلام، أبرزها نحو 140 مستوطنة أقامتها الحكومة الإسرائيلية رسميًا في الضفة الغربية، إلى جانب 200 بؤرة استيطانية غير معترف بها رسميًا، يعيش فيها أكثر من 500 ألف إسرائيلي. كل مستوطنة أو بؤرة جديدة تجعل تطبيق معادلة الأرض مقابل السلام وبناء دولة فلسطينية قابلة للحياة أكثر صعوبة؛ وكل مستوطن إضافي يخلق مقاومة سياسية لأي تسوية كهذه ويزيد الكلفة الاقتصادية لعمليات الإجلاء. 

كما تغيّرت السياسة الإسرائيلية نفسها. فالأحزاب اليسارية تراجعت، فيما تعززت الأحزاب اليمينية. هذا التحوّل السياسي كان قائمًا منذ عقود، لكنه تسارع بشكل حاد بعد الهجوم الذي شنّته حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023. وقد عكس ائتلاف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الحكومي ــ الذي يعتمد على دعم قوميين دينيين من أقصى اليمين ــ هذا التحول وساهم في تسريعه في الوقت ذاته. 

الكثير من الإسرائيليين ومؤيديهم حول العالم ــ حتى أولئك الغاضبين من طريقة إدارة نتنياهو للحرب، ومن ما يعتبرونه اعتداءً على الديمقراطية الإسرائيلية ــ باتوا يعارضون بشدة إقامة دولة فلسطينية، خشية أن تتحول إلى قاعدة تنطلق منها الفصائل المسلحة لشنّ عمليات. ويجادل البعض بأن حل الدولتين سيُشبع طموحات الفلسطينيين السياسية مؤقتًا، لكنه سيُثير شهية أكبر بدلاً من أن يُرضيها. وهناك آخرون يعارضون الدولة الفلسطينية ليس فقط لهذه الأسباب، بل لأنهم يطمعون هم أيضا في الضفة الغربية وغزة كمجال للتوسع الاستيطاني اليهودي. 

ونتيجة لهذه التطورات وغيرها، أصبح إعلان «وفاة حل الدولتين» بمثابة صناعة قائمة بذاتها. ولأسباب يمكن فهمها: فهذا الحل، في أحسن الأحوال، يعيش على أجهزة الإنعاش. 

الأمن على المدى الطويل 

ومع ذلك، فإن حل الدولتين لم يُدفن بعد. إذ سيكون الفلسطينيون والإسرائيليون معًا في وضع أفضل إذا وُجدت دولة فلسطينية قابلة للحياة، مستقلة وذات سيادة، يسكنها الفلسطينيون ويديرونها بأنفسهم، لكن على أساس شروط تضمن ألا تشكّل تهديدًا أمنيًا لإسرائيل. 

فبدلًا من أن تصبح الدولة الفلسطينية قاعدة للعنف، فإنها ستكون على الأرجح وسيلة للحدّ منه بطرق تعجز عنها قوات الدفاع الإسرائيلية. وفي غياب دولة فلسطينية، يُرجَّح أن تواجه إسرائيل «حربًا أبدية». في المقابل، فإن حكومة دولة فلسطينية ستتحمل النتائج العسكرية والاقتصادية لأي هجوم تنفّذه ضد إسرائيل، بوصفه عملًا حربيًا لا فعلًا إرهابيًا، كما ستُسأل عن الهجمات غير المصرّح بها التي تنطلق من أراضيها، وهو ما يُتوقَّع من أي حكومة ذات سيادة أن تمنعه. 

هذا الواقع من شأنه أن يدفع حكومة مسؤولة إلى التصرف بطرق بنّاءة، بينما يمنح إسرائيل حق الردّ إذا أظهر القادة الفلسطينيون عجزًا أو امتناعًا عن الوفاء بالتزاماتهم الدولية. وقد حظيت إسرائيل بتعاطف دولي لهذا الحق مباشرة بعد هجوم 7 أكتوبر، لكنها فقدت هذا الفهم والتأييد خلال أكثر من 22 شهرًا قتلت فيها عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين وعرّضت كثيرين غيرهم لظروف قاسية للغاية. 

كما أن حل القضية الفلسطينية سيوفر سياقًا يسمح بمواصلة وتعميق اتفاقات أبراهام، وتوسيع نطاق التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل عمومًا. عندها سيكون بمقدور الدول العربية أن تُبرر لمواطنيها علاقات طبيعية مع إسرائيل إذا أشارت إلى مسارٍ نحو إقامة دولة فلسطينية. وقد أوضح ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، أن ما يمنعه من المضي في علاقات أوثق مع إسرائيل هو رفضها استئناف مسار دبلوماسي قائم على إمكانية حل الدولتين. وبالمثل، فإن قيام دولة فلسطينية سيعزز استقرار جيران إسرائيل، لا سيما الأردن؛ لأن تلبية مطلب كهذا سيخفف الضغوط على النظام الملكي الأردني الذي طالما قبل العيش بسلام مع إسرائيل، لكنه قد يواجه اضطرابا داخليا إذا تدفّق مزيد من الفلسطينيين إلى أراضيه، مما يهدد توازنه الديموغرافي والسياسي. كما أن تقليص مركزية القضية الفلسطينية سيتيح لمؤسسة الأمن القومي الإسرائيلي التركيز على تهديدات أخرى أكثر إلحاحًا، وعلى رأسها تلك التي تمثلها إيران. 

ستكون الدولة الفلسطينية المستقلة أيضًا في مصلحة هوية إسرائيل وتماسكها الداخلي. فهناك نحو مليوني عربي في إسرائيل، وقد يتعرض بعضهم للتطرف إذا استمرت إسرائيل في إحباط الطموحات السياسية الفلسطينية ومعاملتهم بقسوة. وعلى نحو أكثر جوهرية، فإن وجود دولة فلسطينية سيحرر إسرائيل من معضلة الاختيار بين أن تكون ديمقراطية أو أن تكون دولة يهودية: إذ إن منح خمسة ملايين فلسطيني حقوقًا متساوية سيهدد الطابع اليهودي، بينما حرمانهم من تلك الحقوق سيهدد الطابع الديمقراطي. ومن الواضح أن جميع المؤشرات تشير إلى أن إسرائيل ماضية في إنكار هذه الحقوق، وهو مسار لن يؤدي إلا إلى تعميق عزلتها الدولية. 

كما أن النظر إلى إسرائيل بوصفها منفتحة على فكرة الدولة الفلسطينية سيساعدها على تجنب وضع الدولة المنبوذة، وهو واقع يكتسب زخمًا ردًا على عملياتها العسكرية في غزة. مثل هذا الانفتاح سيقلل خطر العقوبات الاقتصادية الأوروبية ويكبح تزايد النفور الأمريكي، بما في ذلك بين أوساط الشباب من اليهود الأمريكيين ــ وهو اتجاه قد يهدد مع مرور الوقت حتى الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل. كما أن إظهار إسرائيل استعدادًا لمبدأ الدولة الفلسطينية قد يخفف من معاداة السامية عالميًا. 

وأخيرًا ــ وهو الأهم والأكثر إلحاحًا ــ فإن إبداء دعم مبدئي لإقامة دولة فلسطينية سيمنح إسرائيل مخرجًا من غزة وطريقًا لاستعادة من تبقّى من الرهائن. فطرح مسار نحو حل الدولتين شرط أساسي لاستبدال القوات الإسرائيلية بقوة عربية لحفظ الاستقرار، ولخلق بديل سياسي يحدّ من احتكار حماس للادعاء بأنها وحدها القادرة على تحقيق الدولة للفلسطينيين. وكما أدرك البريطانيون في أيرلندا الشمالية، فإن الجماعات الراديكالية لا تُهزم بالقوة العسكرية وحدها، بل لا بد من تهميشها سياسيًا، من خلال إتاحة مسار دبلوماسي يعد بآفاق أفضل من استمرار العنف. 

الأقل هو الأكثر 

إن الرغبة في الوصول إلى نتيجة معينة شيء، أما إمكانية تحقيقها فشيء آخر تمامًا. لذلك، ينبغي أن يكون التركيز الدبلوماسي الفوري متواضعًا، بالنظر إلى الحقائق السياسية سواء في إسرائيل أو في الأوساط الفلسطينية. فبالنسبة لأولئك الذين ما زالوا يؤمنون بحل الدولتين، يجب أن يكون الهدف في المستقبل القريب هو الحفاظ على إمكانية دبلوماسية أكثر طموحًا، وتهيئة الظروف التي تمنح هذه الدبلوماسية فرصة للنجاح يومًا ما. 

كما يجب مقاومة الأحادية الإسرائيلية أيضًا. وهنا يقع العبء على الولايات المتحدة، إذ إن السياسة في إسرائيل ــ نتيجة الائتلافات الحاكمة، والتحولات الديموغرافية، والتفاعلات مع أحداث مثل 7 أكتوبر ــ تطورت على نحو يجعل إسرائيل، إن تُركت لنفسها، عاجزة عن ممارسة ضبط النفس. ينبغي على إدارة ترامب أن توضح رفضها لبناء مستوطنات جديدة أو بؤر جديدة أو أي ضمّ لأراضٍ فلسطينية. كما يجب أن تبلّغ إسرائيل بتوقعها أن يحترم المستوطنون ووحدات الجيش الإسرائيلي حقوق الفلسطينيين في الإنسانية والملكية. وما قد يمنح مثل هذا الموقف قوة فعلية (وهو ما امتنعت هذه الإدارة والإدارات الأمريكية السابقة عن فعله) هو رسالة صريحة من واشنطن بأن إسرائيل لن تستطيع بعد الآن الاعتماد على استخدام الولايات المتحدة لحق النقض في مجلس الأمن لحمايتها من العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية إذا تجاهلت التوجهات الأمريكية. ويمكن لواشنطن أيضًا فرض رسوم جمركية أعلى على إسرائيل إذا استمرت في تقويض ما تبقى من فرص محدودة لقيام دولة فلسطينية. فمن الممكن أن تميز الولايات المتحدة بين دعمها لأمن إسرائيل ودعمها لاحتلالها وتمددها المفتوح. 

في الوقت نفسه، ينبغي على الولايات المتحدة والدول الأوروبية والسعودية وغيرها من الحكومات العربية أن تضغط ليس فقط من أجل إنهاء الحرب في غزة واستبدال قوات الاحتلال الإسرائيلية بقوة عربية وفلسطينية لحفظ الاستقرار، بل إن تطرح أيضًا رؤية علنية لمسار دبلوماسي أوسع. عليها أن تحدد ما تتوقعه من الفلسطينيين والإسرائيليين، وما يمكن أن يتوقعه الطرفان بالمقابل، وما هي الإجراءات التي ستتخذها لتشجيع العملية وتعزيز نتائجها. ويشمل ذلك تقديم ضمانات أمنية لإسرائيل ومساعدات اقتصادية تساعدها على إعادة توطين المستوطنين، وتقديم ما تحتاجه الدولة الفلسطينية الجديدة للوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها وتجاه إسرائيل. إن ما يتطلبه الأمر هنا ليس أقل من التزام طويل الأمد ببناء الأمة ــ أو، بدقة أكبر، بناء الدولة. 

من شأن هذا المسار، في أفضل الأحوال، أن يشجّع على بروز قيادة فلسطينية أكثر اعتدالًا، قادرة على أن تخاطب الإسرائيليين وتتصرف بطريقة تطمئن غالبيتهم، وهو ما قد يمهّد بدوره لظهور قيادة إسرائيلية أكثر اعتدالًا. ويخطر في البال أثر مبادرة الرئيس المصري أنور السادات إلى مخاطبة الإسرائيليين بعد أربع سنوات فقط من أن خاضت مصر الحرب ضد إسرائيل عام 1973؛ تلك المبادرة أقنعت الإسرائيليين بأن لديهم شريكًا يستحق التعاون معه إجلاء المستوطنات وإعادة الأراضي التي كسبتها إسرائيل عام 1967. أما الشروط الدقيقة لإقامة الدولة الفلسطينية، فسيُعاد تناولها والتفاوض بشأنها في وقت لاحق على يد جيل جديد من القادة الإسرائيليين والفلسطينيين. 

ومن الصعب وصف مسار كهذا بالتفاؤل بالنظر إلى موقع الأطراف المعنية اليوم وإلى المسار الذي أوصلها إلى هذا الوضع. ومع ذلك، هناك بعض أسباب الأمل. أولها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يرى نفسه صانع سلام، وقد يجد نفسه في موقع يسمح له بأن يكون كذلك. فترامب يحظى بشعبية في إسرائيل، وله دعم من شريحة واسعة من اليهود الأمريكيين الذين يعرفون أنفسهم بأنهم موالون بقوة لإسرائيل، وكذلك من المسيحيين الإنجيليين. وفي بعض الجوانب، تشبه مكانة ترامب هنا مكانة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون. فقد استطاع نيكسون أن يمد يده إلى الصين الشيوعية إلى حد بعيد لأنه، على خلاف رؤساء أمريكيين آخرين ربما رغبوا في ذلك، لم يكن مضطرًا إلى مواجهة «ريتشارد نيكسون» نفسه ومعارضته الداخلية. 

الأمر نفسه ينطبق على ترامب فيما يتعلق بإسرائيل. فقد منحته مفاوضاته على «اتفاقات أبراهام»، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، وأخيرًا قصفه للمواقع النووية الإيرانية، حصانة من الانتقادات وأوراق ضغط لا يملكها سوى قلة، إن وُجدوا، من أسلافه. وليس من المرجح أن يستغل أي ديمقراطي هذه اللحظة ليتهم ترامب بأنه «يبيع» إسرائيل عبر ممارسة الضغط عليها، لأن كثيرين في الحزب الديمقراطي يرغبون أصلًا في أن يفعل ذلك. إضافة إلى ذلك، فإن دفعًا أمريكيًا نشطًا من أجل السلام سيرفع من مكانة الولايات المتحدة عالميًا، وكذلك من مكانة رئيسها. والخيار هنا يعود إلى ترامب نفسه. 

وهناك سبب آخر للأمل يتمثل في استعداد العالم العربي لصنع السلام مع إسرائيل. فقد أقدمت عدة حكومات بالفعل على ذلك، والسعودية مستعدة للمضي قدمًا في هذا المسار. وهناك أيضًا «إعلان نيويورك» ــ وهو نتاج مؤتمر للأمم المتحدة ترأسته السعودية وفرنسا في أواخر يوليو بشأن حل الدولتين ــ تضمن، من بين أمور أخرى، دعوة حماس إلى إنهاء حكمها في غزة وتسليم سلاحها إلى السلطة الفلسطينية. ويُظهر هذا الإعلان إلى أي مدى تطوّر استعداد العالم العربي للعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل. 

وأخيرًا، هناك الوضع السياسي المتقلب داخل إسرائيل. فعدد الإسرائيليين الذين يتظاهرون ضد إضعاف المحاكم والديمقراطية في البلاد، والذين ينادون مؤخرًا بإنهاء الحرب في غزة وإعادة الرهائن، يشير إلى أن إرث رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين ــ الذي سعى إلى تقديم تنازلات مدروسة من أجل السلام ــ ما زال قوة مؤثرة في السياسة الإسرائيلية. 

الوقت الآن 

إن إقامة دولة فلسطينية ستتطلب مساعدة من الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية. والأهم من ذلك أنها ستتطلب أن يبرهن الفلسطينيون، قولًا وفعلًا، على استعدادهم للعيش في سلام مع إسرائيل. فإذا أبدوا استعدادًا لذلك، عندها يمكن أن تتطور السياسة داخل إسرائيل ــ فضلًا عن أن إسرائيل ستكون مُلزمة بالرد بحسن نية. 

لن تحل الدولة الفلسطينية جميع المشكلات. وهنا يخطر في البال قول ونستون تشرشل الشهير عن الديمقراطية: إنها «أسوأ أشكال الحكم، باستثناء كل الأشكال الأخرى التي جُرّبت بين الحين والآخر». وقد يقول ساخر الشيء نفسه عن حل الدولتين: إنه أسوأ شكل من أشكال التسوية الدبلوماسية، باستثناء جميع البدائل الأخرى. 

ومهما تكن مخاطره ونقائصه، فإن حل الدولتين سيجعل إسرائيل في وضع أفضل من البدائل المطروحة. فالوضع الراهن، المتمثل في احتلال مفتوح بلا نهاية، يهدد بدفع إسرائيل أكثر نحو أن تصبح دولة منبوذة دوليًا. وستواجه إسرائيل على الدوام مقاومة شعب يشعر بأنه لم يعد لديه ما يخسره. أما الترحيل القسري لملايين الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية فسيؤدي إلى النتيجة ذاتها، وربما يزعزع استقرار الأردن ودول مجاورة أخرى، مهددًا السلام الذي تنعم به إسرائيل مع الدول العربية التي سعت إلى إبرامه معها. أما حل الدولة الواحدة، الذي يصبح فيه الفلسطينيون مواطنين إسرائيليين، فسيهدد الطابع اليهودي لإسرائيل، أو طابعها الديمقراطي، أو الاثنين معًا. 

كان أبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي المثقف إبّان صراعي 1967 و1973 مع الدول العربية، قد قال عبارته الشهيرة إن العرب «لا يفوّتون فرصة لتفويت فرصة» حين يتعلق الأمر بصنع السلام. كان لديه بعض الحق. لكن اليوم يمكن تطبيق المثل نفسه على إسرائيل أيضًا. فلم يسبق في تاريخها أن كانت إسرائيل أكثر أمنًا من التهديد الخارجي. فهي في سلام مع مصر والأردن، وكذلك مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين. وقد أضعفت بدرجة كبيرة وكلاء إيران في المنطقة، وعلى رأسهم حزب الله في لبنان. أما إيران والعراق وسوريا فهي جميعًا في حالة ضعف نسبي. والمملكة العربية السعودية، أغنى الدول العربية وأكثرها مكانة في العالم الإسلامي، أبدت استعدادها لتطبيع العلاقات إذا أظهرت إسرائيل استعدادًا للتعامل مع المطالب الوطنية الفلسطينية ضمن شروط معقولة. وفوق ذلك، لإسرائيل صديق مخلص في البيت الأبيض. 

ينبغي على الولايات المتحدة أن تفي بإرثها كأقرب أصدقاء إسرائيل. فعلى صانعي القرار والمواطنين الأمريكيين أن يدركوا أن ما يُعتبر اليوم موقفًا مؤيدًا لإسرائيل قد يُحكم عليه تاريخيًا بطريقة مختلفة تمامًا. إن مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة على السواء تقتضي السعي لإقامة دولة فلسطينية قبل أن تتلاشى هذه الإمكانية إلى الأبد. إنها، حرفيًا، لحظة «الآن أو أبدًا». 

* ريتشارد هاس دبلوماسي أمريكي، كان يشغل منصب رئيس مجلس العلاقات الخارجية منذ يوليو 2003، وقبل ذلك كان يشغل منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية للولايات المتحدة. 

 خدمة تربيون عن فورين أفيرز 

 تمت الترجمة باستخدام الذكاء الاصطناعي