توجّه أكثر من 854 ألف طالب وطالبة إلى مدارسهم بداية هذا الأسبوع، بينهم أكثر من 70 ألف طالب مستجد، أعداد متناسبة مع الوضع السكاني، يحدوهم الأمل في عالم مشرق بالعلم، يجعلون من المستقبل هدفهم، ومن الحاضر ركيزة لهم، وينظرون في المتفوقين من أقرانهم قدوة لهم، يحاولون بناء وطنهم، وإظهار قدرتهم على التحدي، ومواجهة المستقبل بنور المعرفة، ويقين الهدف، فالدول التي تبوأت مكانة عليّة بين العالم هي تلك التي جعلت من التعليم هدفا رئيسيا لها، واهتمت بجوانب الفكر، وعملت على ترسيخ فكرة الكيان المعرفي والثقافي والتكنولوجي، وبذلك استطاعت أن تشق طريقها في عالم متشابك ومعقد، ولا يقبل أنصاف الحلول، فإما أن تتطور إلى الأعلى، وإما أن تظل مكانك، وتتراجع بينما تشاهد الآخرين يتخطونك بمراحل. 

إن فكرة «العلم لأجل العلم» فكرة مقبولة إلى حد ما، ولكن بضوابط، واشتراطات تجعل من العلم قوة للفرد، وللدولة، فما فائدة متعلم لا يُستفاد من علمه؟.. وما جدوى موهبة لا يُلتفت إليها؟.. وما هو الهدف من تعليم لا يرتبط بتطوير الدولة الشامل، وجعل المخرجات رافدا لبناء الوطن، وقوة مضافة إلى سوق العمل؟.. ولذلك تسعى الدول المتقدمة إلى تطوير أساليب التدريس والتعلم، وتهيئة المناخ المناسب لكي يقدم الطالب أفضل ما لديه، ويكون عاملا على ترسيخ مفهوم البناء المعرفي، والثقافي، والتكنولوجي للدولة. 

ولذلك يشكّل كل عام دراسي فرصة لإعادة التفكير في صناعة الأجيال، وليس عبئا على الدولة كما يتوهم البعض، فتشكيل الأجيال يبدأ من الصف الأول، وتشكيل العقل الجمعي للأفراد يكون منذ البدايات المبكرة، وفي هذا الإطار تسعى الدول المتقدمة إلى وضع أفضل معلميها من حملة الشهادات العليا، وذوي المعرفة والخبرة المتميزة لتدريس الصفوف الدنيا، لكي يقوموا بتأسيس الطلبة الأطفال ذهنيا، وعمليا، وعلميا، وسلوكيا بشكل صحيح، ومتين، وهم يسعون بذلك إلى بناء أرضية سليمة يستفيد منها الوطن، ويبني عليها، ويراهن من خلالها على المستقبل. 

إن العلم ليس مجرد إضافة معلومات جامدة، وغير منتجة، بل هو إعادة التفكير، ونقد الواقع، وبلورة ما تم تعلمه إلى قيمة بنائية مضافة، ولا يمكن الوصول إلى هذه النتائج إلا بنظام تعليمي متقدم، لا يعتمد على الحفظ دون فهم، ولا على الاختبارات النهائية بل يعتمد على طرق وأساليب التعليم، وإتاحة فضاء واسع للطالب للتفكير، والاستنتاج، والتطبيق العملي، أما تلك النظريات التي لا تتطابق مع الواقع، ولا تهتم إلا بنسب الاختبارات النهائية، فقد عفا عليها الزمن، بل أن كثيرا من الدول المتقدمة علميا، ومعرفيا ألغت الاختبارات، واكتفت بتقييم مهارات، ومعارف الطالب، وتفاعله، وركزت على اهتمامات التلميذ منذ بداية الصف الأول، ومتابعة تطور فكره، ومعرفته، وبذلك خرجت إلى ساحات العمل طاقات شبابية هائلة، تجيد التفكير، ونقد التجربة، وتسهم في بناء الوطن، وترفع من قيمة الفرد الذاتية، أما مسألة أن يهدر الطالب اثني عشر عاما دون أي تأسيس سليم فإن ذلك مضيعة للوقت، والجهد، والمال. فليكن اهتمام الدولة على تأسيس الطالب منذ التحاقه بالصف الأول، وأن تبني عليه، وتراقب تطوره المعرفي على مدى سنوات دراسته، وتستثمر طاقاته منذ البداية، وتوجهه نحو الطريق الصحيح، وأن تضع أصحاب الشهادات العليا، والخبرات المتميزة لتدريس الصفوف الدنيا التأسيسية، كي تكون مخرجات التعليم في المستقبل قيمة مضافة لسوق العمل، وللدولة بشكل عام، وليس مجرد أرقام يتم تداولها دون أي تنظيم، أو استفادة فعلية منها. 

مسعود الحمداني كاتب وشاعر عُماني