لا تقتصر المعاناة في مخيمات النزوح على فقدان المأوى والغذاء، بل تمتد لتشمل تهديدًا متصاعدًا لصحة الأطفال، مع انتشار أمراض جلدية في صفوفهم نتيجة تدهور أوضاعهم الصحية، بسبب قلة النظافة والمياه، ونقص العلاج.
انتشار الجرب، والفطريات، والتهابات الجلد أصبحت مشهدًا يوميًا في مخيمات النزوح، وسط تحذيرات طبية من تفاقم الوضع الصحي.
على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة، حيث نصبت آلاف الخيام الهشّة للنازحين، تلمع وجوه الأطفال ببراءة مشوبة بالوجع، فيما يغزو الطفح الجلدي أجسادهم، لا يجد الأطباء تفسيرًا أو علاجًا ناجعًا لهذه المشكلات الجلدية في ظل نقص الأدوية والمستلزمات الطبية داخل المستشفيات.
أمهات يواجهن المجهول إخلاص خالد (30 )عامًا، أم لأربعة أطفال، تقول: «قبل ثلاثة أسابيع ظهرت على جلد طفلتي الكبرى حبوب صغيرة تشبه الطفح الحراري، ثم تحولت بسرعة إلى تهيّجات ورؤوس بيضاء، وأصبحت ندبات عميقة وكأنها حروق من الدرجة الثانية». تضيف: «حتى لو حصلنا على بعض الأدوية للطفح، فإنه لا يزول نهائيًا، لأن أطفالنا لا يأكلون ما يقوي مناعتهم. كل يوم أرى أعراض المرض تتفاقم، والجوع يضاعف الألم». هرعت إلى المستشفى الميداني التابع لـ«الهلال الأحمر»، حيث بالكاد حصلت على مضادات حيوية بعد بحث استمر يوما داخل صيدليات القطاع التي أصبحت خاوية من الأدوية. هدأ الطفح مؤقتًا، لكنه ما لبث أن عاد بشكل أشد وانتقل إلى شقيقيها.
«اليوم، كل أطفالي يعانون، والتشخيص ما زال غامضًا، فيما تتكرر رحلة العلاج بلا نهاية». في خيمة أخرى تعج بالأطفال في وسط مواصي خانيونس، تجلس أم محمد (27) عامًا وهي تراقب طفلها الرضيع وقد غطى الطفح جلد جسده الصغير: «ظننته مجرد حساسية بسيطة من حرارة الخيمة أو من مياه البحر الملوثة. لكن سرعان ما امتلأت فقاعات حمراء بالقيح. حاولت تنظيفها بطرق بدائية، لكن الوضع يزداد سوءًا». وتضيف: «أطفالي لا يجدون ما يكفي من الطعام، أحيانًا يكتفون برغيف واحد في اليوم. أجسادهم ضعيفة، وبطونهم منتفخة، والطفح الجلدي يغطي أجسادهم من الرأس حتى القدم. أشعر بالعجز أمام هذا العذاب». ذهبت مرارًا إلى مستشفى ناصر الطبي في مدينة خانيونس أملا في الحصول على أدوية تخفف عن أبنائي الأربعة حدة الطفح الجلدي الذي استشرى بأجسادهم جميعًا مؤخرًا لكن دون جدوى.
لا يستطيع الأطفال النوم بشكل طبيعي، كما يفتحون عيونهم بصعوبة بسبب الحساسية والالتهابات التي تغطي أجسادهم ووجوههم خاصة طفلتها سميرة التي لم تكمل عامها الخامس.
تردف أم محمد قائلة: «على مدار الأربع وعشرين ساعة يطلبون مني أن أحك لهم جلدهم فهم لا يستطيعون التحمل، وكثيرًا ما يخلعون ملابسهم بسبب الحساسية». لكم يكن حال أم أحمد (35 ) عامًا هو الأفضل، إذ تؤكد أن أطفالها الثلاثة يعانون من الطفح ذاته منذ نزوحهم: «الأدوية شبه معدومة، وما نحصل عليه لا يكفي. نخشى أن تتحول هذه الإصابات إلى أمراض معدية أو أوبئة». وتضيف: «ابني الأكبر لا يستطيع اللعب مثل الأطفال الآخرين. جسده ضعيف، الجلد مليء بالفقاعات والحبوب، وأحيانًا يصاب بالحمى بسبب العدوى. أشعر أن الغذاء والدواء متلازمان، وأن أي نقص في أحدهما يجعل الآخر بلا جدوى». ظلت أم أحمد تبحث عن ماء كي يغتسل أبناؤها لعل الماء يهدّئ قليلا من قسوة الطفح الجلدي: «لكنني لم أجد ولا قطرة ماء». وتوضح أن سكن الخيام لا يساعد على تحسن حالتهم، «فالرمال التي تلتصق على أجسادهم بسبب العرق» تؤدي إلى تدهور الحالة.
سوء التغذية والمجاعة... الوجه الخفي للأمراض الجلدية لا تقف أسباب الطفح الجلدي عند حدود انعدام النظافة وتلوث المياه فقط، بل تمتد جذورها إلى سوء التغذية الحاد والمجاعة التي تعصف بآلاف الأطفال في غزة. فمع انعدام الغذاء الغني بالبروتينات والفيتامينات، تضعف مناعة الأطفال بشدة، ويصبح جلدهم هشًّا أمام أي التهاب أو عدوى.
بحسب منظمة اليونيسف، تم تشخيص أكثر من 12,000 طفل تحت سن الخامسة في غزة بسوء تغذية حاد خلال يوليو 2025، وهو الرقم الشهري الأعلى على الإطلاق.
في السياق ذاته حذرت منظمة الصحة العالمية من أن طفلًا واحدًا من كل خمسة دون سن الخامسة في مدينة غزة يعاني من سوء التغذية الحاد، وأن هذا المعدل تضاعف ثلاث مرات منذ شهر يونيو.
وعلاوة على ذلك، تعاني المراكز المتخصصة من ضغط كبير؛ فقد تم إدخال أكثر من 5000 طفل للعلاج من سوء التغذية خلال أول أسبوعين من يوليو فقط، 18% منهم بحالة سوء تغذية حاد شديد.
هذه الأرقام لم تأتِ من فراغ؛ المشهد في المخيمات يعكس أطفالًا بأجساد نحيلة، وبطون منتفخة من سوء التغذية، وجلود تغطيها الطفوح والبثور، في وحدة معاناة مؤلمة بين الجوع والمرض.
شهادات طبية... وأدوية غائبة من داخل المستشفى الميداني في دير البلح، يقول الدكتور أحمد خليل: «نستقبل يوميًا عشرات الحالات المشابهة، معظمها بين الأطفال. نحن أمام أمراض جلدية مرتبطة بالازدحام، سوء التغذية، تلوث المياه، وانعدام النظافة في المخيمات.
الأدوية شحيحة جدًا، والمضادات الحيوية لا تكفي، وبعض الحالات تحتاج إلى عناية متقدمة لا نستطيع توفيرها». ويضيف: «الخطر الأكبر هو تحوّل هذه الإصابات إلى أمراض وبائية تنتشر بسرعة في بيئة مكتظة كالخيام». وقد كان لمنظمة الصحة العالمية تصرح بينت فيه أن 150 ألف شخص في غزة يعانون من الأمراض الجلدية. وتتفاقم تلك الأمراض بسبب الظروف غير الصحية في مخيمات النزوح من تكدس وندرة المياه وغياب مستحضرات النظافة فضلا عن شح الدواء والطعام وما يترتب عليه من نقص شديد في المناعة.
وحذر سليم عويس المتحدث باسم اليونيسيف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أن موجات نزوح جديدة قد تعني «حكمًا بالموت» على الكثير من السكان، بسبب اكتظاظ كل أماكن النزوح في القطاع فضلا عن عدم توفر أي مقومات للرعاية الصحية أو الإنسانية في تلك المناطق.
وكان مدير دائرة الطب الوقائي في وزارة الصحة بغزة قال في وقت سابق: إن حياة أكثر من 500 ألف طفل دون الخامسة مهددة بشكل مباشر جراء انتشار الأوبئة والأمراض المعدية في قطاع غزة.
وتوضح إيمان حسونة الطبيبة بجمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية أن «الأطفال الذين يأتون إلينا يغطيهم الطفح الجلدي من شعر الرأس وحتى أخمص القدم، وأحيانًا تكون مغطاة بالصديد».
وتوضح حسونة أن الأدوية المتاحة هي مجرد بدائل لا تحمل نفس فاعلية عقاقير «خط الدفاع الأول» نظرًا لعرقلة دخول المساعدات. وتكشف أن 70% من المرضى الذين يزورون العيادات حاليا يعانون من الأمراض الجلدية، مشيرة إلى أن الأطباء لا يستطيعون إلا أن يوفروا 10% فقط من العلاج.
وباء يزحف بصمت
ما تعانيه إخلاص وأمهات المخيم ليس حالة فردية، بل ظاهرة آخذة في الاتساع.
فالطفح الجلدي الغامض، الذي يشبه الحروق ويعود في موجات متكررة، بات يهدد حياة آلاف الأطفال. وفي غياب التشخيص الدقيق ونقص الدواء والغذاء، تبقى أجساد الصغار مسرحًا لأمراض مجهولة، وصرخة استغاثة لم تجد بعد من يسمعها.