في عامها الرابع، لا تزال الحرب الروسية الأوكرانية تُعيد رسم خريطة الأمن الأوروبي وتكشف حدود القوة العسكرية والسياسية لدى الطرفين. روسيا تراهن على الاستنزاف البطيء وعلى فائضها البشري والصناعي، فيما تراهن أوكرانيا على الدعم الغربي وعلى قدرتها على الحفاظ على تماسك داخلي غير مسبوق. بين هذين الرهانين يتحدد مستقبل الصراع، الذي لا تبدو له نهاية قريبة.
يعكس المشهد الميداني اليوم مأزقا مزدوجا. موسكو حققت مكاسب محدودة رغم موجات القتال المستمرة، لكنها دفعت أثمانا بشرية باهظة، فيما صعّدت من ضرباتها الجوية عبر مئات المسيّرات والصواريخ التي تستنزف الدفاعات الأوكرانية. في المقابل، ترد كييف بابتكار عسكري بارز في مجال المسيّرات والهجمات العميقة، ألحق ضررا ملحوظا بالبنية التحتية الروسية للطاقة وأجبر الأسطول البحري على الانكفاء بعيدا عن البحر الأسود. لكن هذه النجاحات التكتيكية لم تتحول بعد إلى تغيير استراتيجي في ميزان الحرب.
المعضلة الأكبر أمام أوكرانيا لا تكمن في التكنولوجيا وحدها ولكن في العنصر البشري. فقد تراجعت قدرتها على رفد الجبهات بمقاتلين جدد، وارتفعت الضغوط الاجتماعية جراء قوانين التعبئة والجدل حول صلاحيات السلطة التنفيذية. وعبّرت الاحتجاجات التي عمّت كييف ومدن أخرى هذا الصيف عن خوف حقيقي من أن تضعف مؤسسات مكافحة الفساد، الركيزة الأهم في مسيرة الديمقراطية الأوكرانية. وأدرك الأوكرانيون أن الحرب ليست فقط معركة جبهات، ولكنها اختبار لاستمرارية العقد الاجتماعي الذي وحّد المجتمع منذ 2022.
أما الغرب، فيعيش حالة من التباين. الاتحاد الأوروبي زاد من إنتاجه العسكري، مستهدفًا مليوني قذيفة سنويًا، وألمانيا وفرنسا وبريطانيا تعزز الإمدادات التدريبية والدفاعية. لكن التردد الأمريكي، خصوصا بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أحدث فراغا استراتيجيا. صفقة السلام التي لمح إليها مع الرئيس الروسي بدت للأوكرانيين محاولة لفرض استسلام، لا لإيجاد تسوية عادلة. هذا التحول يعزز قناعة كييف بأن عليها الاعتماد أكثر على نفسها، مع الاستفادة من الدعم الأوروبي طالما ظل قائمًا.
في هذه اللوحة المعقدة، يبرز سؤال جوهري: ما حدود القوة الأوكرانية؟ التجربة أثبتت أن كييف قادرة على الصمود، وعلى امتصاص صدمات عسكرية هائلة دون انهيار مؤسساتها أو تمزق نسيجها الاجتماعي.. لكن حدود هذه القدرة تتضح حين يتعلق الأمر بالاستدامة: القدرة على تجنيد قوات جديدة، على حماية المدن من موجات الهجمات الجوية، وعلى الحفاظ على توازن ديمقراطي في زمن الطوارئ. هذه حدود لا تحددها الدبابات ولا الصواريخ بقدر ما تحددها الثقة بين الدولة والمجتمع.
يجب أن تظل العدالة وحقوق الإنسان معيارا لأي قراءة لهذه الحرب؛ فالهجمات الروسية العشوائية على المدن الأوكرانية، وما تخلّفه من ضحايا مدنيين، لا يمكن تبريرها بأي خطاب سياسي. لكن في الوقت ذاته، فإن مستقبل أوكرانيا لن يُبنى فقط على تلقي المساعدات العسكرية، بل على صيانة مؤسساتها الديمقراطية وصمود مجتمعها. وهذا هو الامتحان الأصعب في حرب بلا أفق زمني واضح.
في النهاية، لا يمكن اختزال الحرب في معادلة صفرية بين هزيمة روسيا أو انتصار أوكرانيا.. فهي مسار طويل يرسم حدود القوة الحقيقية لكل طرف، ويعيد تعريف موقع أوروبا في النظام الدولي. بالنسبة لأوكرانيا، يكمن الرهان في إثبات أنها ليست ساحة صراع بالوكالة، بل دولة قادرة على الصمود وبناء مستقبلها، حتى وسط أكثر الحروب قسوة.