كلمات من قبيل: «تأسلُم» و«أسلَمة» و«إسلاموية» كلها تنتسب إلى كلمة «إسلام»، وهي نسبة مشروعة لغويًّا وإن لم تقرها المعاجم اللغوية التقليدية؛ لأنها تصف حالات وظواهر مشتركة أفرزتها متغيرات الواقع السياسي في العالم الإسلامي. كلمة «التأسلم» Islamization تشير إلى كل نظام أو تنظيم ديني سياسي يوظِّف الدين كأيديولوجيا سياسية واجتماعية واقتصادية: فالإسلام ليس مجرد القواعد الخمس المعروفة التي يقوم عليها؛ لأن الإسلام دين ودولة، ودين ودنيا، ولا حاكمية إلا لله. ولذلك، فربما تكون كلمة «الأسلمة» أوفق في التعبير عن هذا المعنى من كلمة «التأسلم»؛ لأن هذه الكلمة الأخيرة قد توحي بمعنى الدخول في الإسلام أو اتخاذ الإسلام دينا وعقيدة، بينما كلمة «الأسلمة» تتجاوز هذا المعنى إلى التأكيد على أن الإسلام ليس مجرد عقيدة، وإنما هو نهج للدولة في كل مؤسساتها، بل حتى في مجالات الثقافة والعلوم والفنون. ومن هنا شاع منذ عقود طويلة مصطلح «الإسلام السياسي»، وهي أيديولوجيا تتبناها كل النظم أو المنظمات والجماعات التي تنتهج هذا النهج؛ ولذلك يُسمى أيضًا أولئك الذين يتبنون تلك الأيديولوجيا «إسلامويين» Islamists، أي يلصقون صفة إسلامي Islamic بكل ما هو دنيوي (ولذلك، فإنهم يكرهون العلمانيين والليبراليين). وينتمي إلى هذه النظم والجماعات في العالم الإسلامي: تنظيم القاعدة وداعش وطالبان والجماعات السلفية وجماعة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم مما هنالك من اختلافات جوهرية بين هذه التنظيمات والجماعات حتى إن بعضها يتنصل من الآخر، بل ينكره؛ فإن هذا لا يعنينا في هذا الصدد، وإنما يُعني المختصين في شؤون هذه الجماعات. فما يُعنينا هنا هو أن هذه الاختلافات لا تطال توجه «الأسلمة» باعتباره توجهًا رئيسًا، وإنما تكمن في آليات تنفيذه والغاية المرادة منه. 

الأسلمة التي هي قاسم مشترك في توجه الإسلام السياسي قد أفرزت ظواهر عامة عديدة ساهمت في تخلف العوالم الإسلامية التي يكون هذا التوجه ناشطًا أو حاكمًا فيها، خاصةً في عالمنا العربي؛ وهذا ما سنشير إلى أمثلة عليه في السطور التالية: 

تُعد حركة طالبان نموذجًا للإسلام السياسي الراديكالي الذي وصل إلى الحكم في أفغانستان بقوة السلاح وبفعل عوامل سياسية أخرى لا يهم ذكرها في هذا السياق. فالشاهد هنا أن هذه الجماعة قد فرضت باسم الإسلام تضييقًا في الأفق السياسي وفي المجال العام، بما في ذلك تحريم الفنون وتقييد عمل المرأة وتعليم الفتيات، وغير ذلك مما هو معروف عن نظام حكم هذه الجماعة. 

من ظواهر حركات أو جماعات الإسلام السياسي إنها تستخدم الدين من أجل بلوغ السلطة، وذلك من خلال عملية تسييس الدين من دون تأويل للنصوص الدينية التي تُستخدَم. ومن ظواهرها أنها تختزل الدين في لحظة بعينها من الماضي هو ماضي السلف الصالح في صدر الإسلام، وتأخذ بظاهر النصوص والأحاديث من دون تأويل؛ وبذلك فإنها تتخذ توجهًا من جمود الفهم والفكر يكون مضادًا لإمكانية تحقيق أي تطور في كثير من شؤون الحياة الدنيا التي تكون بطبيعتها مستقلة عن شؤون الدين. وعلى الرغم من أن هذه الجماعات تقدس الماضي ممثلًا في صدر الإسلام، فإنها تشترك بدرجات متفاوتة في الحط من شأن الحضارات السابقة على الإسلام (رغم أن الحضارة الإسلامية ذاتها قامت على الانفتاح على هذه الحضارات والاستفادة منها). ومن ذلك -على سبيل المثال- التعريض الدائم بالفراعنة أو حكام مصر القديمة، واستخدام كلمة الفرعون بمعنى عام يشير إلى الحاكم المستبد الظالم الكافر في نوع من التعميم الذي يفتقر إلى التأويل، ومن ثم إلى الفهم: ذلك أن الفرعون المقصود في القرآن هو فرعون موسى، ولا يعني كل فرعون؛ إذ إن من الفراعنة من امتازوا بالقيم الإنسانية والأخلاقية الرفيعة مما لا يتسع له أي مقال. 

والحقيقة أن النزعة الماضوية الشائعة في الاتجاهات الإسلاموية تتبدى في الاهتمام البالغ بالمظاهر الشكلية للدين من دون روحه أو جوهره باعتباره قوةً روحيةً إيمانيةً تحث على العمل والعلم والإبداع، ومن ثم إعمار الأرض. بل يمكن القول بأن الاهتمام بالمظاهر الشكلية للتدين يصل إلى حد المبالغة في الاهتمام بشكل اللباس، ومن ذلك على سبيل المثال: تقصير جلباب الرجال، وذلك يحدث من دون تأويل، لهذا المظهر للجلباب في زمنه الماضوي الذي كان يتخذ هذه الهيئة اتقاءً لأوحال الطريق الذي أصبح في زماننا هذا معبدًا ونظيفًا في المدن المتطورة. بل إن الجلباب نفسه وفي عمومه ليس شيئًا دينيًّا، وإنما هو مجرد الكلمة التي تشير إلى الرداء المستخدم في عصر ما أو لدى قوم ما. هذا مجرد مثال من بين أمثلة عديدة لا حصر لها في مجال السلوك الاجتماعي. 

كما أن الجماعات الإسلاموية تشترك في الميل إلى التطرف المتأصل في طبيعة الفكر أو المعتقد الذي تستند إليه، ولكنه تطرف كثيرًا ما يتجاوز الفكر إلى الواقع حينما يلجأ إلى استخدام السلاح من أجل بلوغ السلطة؛ وهذا يرجع بطبيعة الحال إلى أن فكر هذه الجماعات يكون فكرًا إقصائيًّا لكل تيار أو مذهب مغاير لهذا الفكر. وربما يمكن القول بأن جماعة الإخوان المسلمين هي أقل الجماعات الإسلاموية تطرفًا في هذا الصدد، ومع ذلك فإن فكرها بطبيعته هو فكر إقصائي يكمن في هوية الجماعة نفسها التي تُسمي نفسها «جماعة الإخوان المسلمين»، وهو ما يعني إلصاق صفة المسلم والإسلامي بمن ينتمي إلى هذه الجماعة، وكأن من لا ينتمون إليها لا ينبغي وصفهم بأنهم مسلمون. 

بقي أن نؤكد في النهاية على أنه إذا كانت الإسلاموية هي نزعة أصولية تستخدم الدين بشكل حَرفي (دون تأويل) كمشروع لبلوغ السلطة؛ فإن هذه النزعة الأصولية موجودة في المسيحية واليهودية؛ وهذا ما نراه في يومنا هذا من جانب المشروع الصهيوني الاستعماري الذي يستخدم الدين بشكل غير مشروع لتبرير عدوانه الوحشي على فلسطين. 

د. سعيد توفـيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة