من هو المثقف؟ سؤال لم يتوقف الفكر الحديث عن طرقه. يرى أنطونيو جرامشي في كراسات السجن أن «الناس كلهم مثقفون، لكن ليس للناس كلهم وظيفة المثقف في المجتمع»، فالمثقف عنده ليس مجرد صاحب معرفة، بل هو من ينظم ويقود ويمنح الحياة الاجتماعية معناها. أما إدوارد سعيد في المثقف والسلطة، فيعتبر المثقف ذلك الفرد «الذي يمثل رسالة أو رؤية ما، ولا يخشى قول الحقيقة في وجه السلطة أو المجتمع، حين يسوده الصمت أو التواطؤ»، ليضعه في موقع الشاهد الأخلاقي والناقد. بينما يذهب علي الوردي في مهزلة العقل البشري إلى أن «المثقف الحقيقي هو الذي ينظر إلى الأمور بعين ناقدة، لا ينقاد بسهولة وراء العادات والتقاليد، بل يحاول أن يكتشف الأسباب الكامنة وراء الظواهر». 

هذه التعريفات تفتح لنا أفقًا نبيلا لدور المثقف، لكنها تبرز في الوقت نفسه المفارقة، حين نعاين الواقع العربي، حيث يطفو على السطح مثقف آخر لا ينتمي إلى هذه التصورات: مثقف وصولي، لا يضيء بالنص ولا بالفعل، بل يتقن لعبة البقاء عبر النفوذ والشللية. 

المثقف الوصولي يمكن التعرّف إليه من سماته المتكررة: قليل العطاء الإبداعي، لكنه غزير في الاتصالات والعلاقات. سلاحه الأول هو التكرار والإلحاح؛ لا يملّ من طرق الأبواب، ويجيد التوّسل والبكاء متى ما اقتضت الحاجة. وهو متحوّل الهوية؛ مرة يتبنى خطاب التقاليد لحجب الأفكار الجديدة، ومرة يتزَّين بلباس الحداثة إذا كان ذلك يفتح له بابًا إلى جائزة أو منصب. 

هذه الصورة ليست افتراضية، بل موثقة في اعترافات وتجارب عديدة. كثير من الطلبة العرب يروون قصصًا عن أساتذة رفضوا أفكارهم بدعوى أنها «غريبة عن التقاليد»، ثم فوجئوا لاحقًا بأنّ هذه الأفكار ذاتها جرى اقتباسها أو إعادة صياغتها في أعمال مسرحية أو بحثية أو أفلام نُشرت بأسماء الأساتذة وحصدت التكريم. هذه الحوادث ليست مجرد سرقة إبداعية، بل تعبير عن ذهنية تستبطن الخوف من الجديد، وفي الوقت نفسه تقتات عليه حين يحين موعد الجوائز. إنها ذهنية البيروقراطية الثقافية، حيث يصبح الإبداع مجرّد مادة خام يستهلكها النفوذ، فيما يغيب الاعتراف بالحقوق الفكرية والملكية الأدبية. 

ومن هنا، تتحول الجوائز نفسها إلى ساحة لصراع الولاءات. فكم من نصوص متواضعة فازت، لا لأنها أعمق أو أجمل، بل لأن أصحابها عرفوا كيف يحيطون أنفسهم بشبكة من «الأصحاب» داخل لجان التحكيم. الجائزة في هذه الحالة لا تعود أداة لتكريم الموهبة، بل وسيلة لإدامة النفوذ. وعندها، يصبح المثقف ضد المثقف: يخفي الدعوات الموجهة لغيره، يعرّقل مشاركات منافسيه، يشيع التقارير عنهم، ويقنع المسؤولين بأن الثقافة لن تزدهر إلا بوجوده وحده. 

هذه الظاهرة لم تغب عن الأدب العربي نفسه، فقد جسّد نجيب محفوظ في اللص والكلاب شخصية الصحفي رؤوف علوان، الذي تخلّى عن مبادئه القديمة، وخان صديقه سعيد مهران، حين باع قلمه للسلطة مبررًا أن «الغاية تبرر الوسيلة». وفي الكرنك تتجسد صورة أكثر فجاجة في شخصية محفوظ عجب، الذي لم يكتفِ بخيانة قلمه، بل خان محيطه الأقرب، متخليًا عن أمه ومستغلًا أخته وبائعًا حبيبته في سبيل أن يظل نافذًا. هذه النماذج الروائية توازي تمامًا ما نراه في الواقع: مثقفون يضعون المصلحة الخاصة فوق الفعل النبيل العام، فيتحولون من حَمَلة للمعنى إلى تجار بالمعنى. 

الخطورة أن هذه الممارسات تجد غطاءها في بنية أوسع اسمها غياب الديمقراطية الثقافية. ففي ظل مؤسسات تُدار بالمحاباة أكثر من المعايير، وتتحكم فيها القبليّة والعشيرة أكثر من روح المواطنة، يغدو الوصولي جزءًا من نظام يعيد إنتاج نفسه. يتقاطع ذلك مع غياب التفكير النقدي في المجتمع، إذ يُنظر إلى المثقف الرسمي على أنه «وجه البلد»، بينما لا يُلتفت إلى النصوص المهمشة أو الأصوات المعارضة. وهكذا تتحول الثقافة إلى إدارة بيروقراطية تُدار بالتقارير والعلاقات لا بالأفكار. والمأساة هنا ليست في الثقافة ذاتها، بل في خطاباتها الرسمية المترّهلة التي يطرحها المسؤولون، إذ تغدو تبريرًا للواقع أكثر من كونها دعوة إلى تغييره، فتكشف بذلك عن عجز الداخل قبل أن تكشف عن تقدّم الآخر. 

وإذا وسعنا المشهد عربيًا وعالميًا، نكتشف أن الصورة ليست قدرًا محتومًا. فكم من مثقفين واجهوا السلطة بصلابة، ورفضوا الدخول في لعبة الجوائز الرسمية أو التحزبات السياسية أو المجاملات الثقافية. صنع الله إبراهيم، الروائي المصري، وقف عام 2003م في حفل رسمي، ورفض تسلّم جائزة الدولة التقديرية، معلنًا أن «الحكومة التي تمنح الجائزة هي نفسها المسؤولة عن قمع الحريات وإفقار الشعب». وفي السياق الغربي، تُعد سوزان سونتاغ مثالًا بارزًا لمثقفة لم تساوم، إذ عُرفت بانتقاداتها الجريئة للحروب الأمريكية، وبمواقفها الأخلاقية في الدفاع عن الحقيقة كما بلورتها في كتابها حول المعاناة لدى الآخرين. مثل هذه المواقف تكشف الفارق بين المثقف الحقيقي الذي يضيء بما يكتب، والمثقف الوصولي الذي يسطع بضجيجه واتصالاته، ولو كان بلا نص. 

إن مواجهة هذه الظاهرة لا تكون إلا بإعادة النظر في آليات التكريم والدعم، بحيث تُبنى الجوائز على النصوص لا على الأسماء، ويُمنح الاعتراف لمن يضيف إلى الثقافة عملاً أو فكرة، لا لمن يضيف إلى رصيده صديقًا جديدًا في لجنة ما. المثقف الحقيقي هو الذي يفتح الأبواب لغيره لا الذي يغلقها، وهو الذي يضيء بفكره وموهبته لا بضجيجه واتصالاته. وإذا لم نتعلم كيف نميز بين الاثنين، فسيظل المشهد الثقافي العربي أسيرًا للوجوه ذاتها، لا يُنتج إلا «اللامعنى» بتعبير الطاهر لبيب، بينما يبقى المبدع الأصيل في الظل. 

إن التنوع الثقافي يذكّرنا بأن الثقافة الحقيقية لا تُبنى من مرجعية واحدة ولا من قوة منفردة، بل من تفاعل روافد متعددة: التراث والدين، التجربة الحياتية والبيئة المحلية، والسياسة والاقتصاد، بل وحتى الأيديولوجيا حين تُفهم بوصفها منظورًا ضمن منظورات أخرى لا باعتبارها سلطة مطلقة. إن هذا التنوع ليس عائقًا، بل هو مصدر غنىً يثري الثقافة المحلية، لأن اعترافنا باختلاف الأفراد والبيئات التي جاؤوا منها هو في حد ذاته اعتراف بالاختلاف كقيمة، ومن هنا يصبح التنوع عنصرًا مُكوِّنًا للهوية الثقافية لا تهديدًا لها. 

الوصولية الثقافية ليست مجرد عيب فردي، بل هي عَرَض لمرض أعمق يصيب الجسد الثقافي حين تتماهى مع البيروقراطية والمحسوبية. إنها نسق مترسخ في بنية المجتمع، تشكل عبر أنماط التنشئة والعلاقات التي خبرناها في الأسرة كما في السياسة، حيث تُقدَّم المصلحة الضيقة على القيمة، ويُغلب الصوت الأعلى على الفكرة الأصدق. ومواجهة هذا النسق تبدأ بالاعتراف بوجوده، ثم بفضحه وتعريته، وأخيرًا بتكريم الموهبة والصدق في مواجهة النفوذ الزائف. فالمثقف لا يُقاس بما يملكه من علاقات أو مناصب، بل بما يتركه من أثر في نص أو عرض أو فكرة تسهم في تشكيل الوعي وفتح آفاق جديدة. 

آمنة الربيع باحثة أكاديمية متخصصة فـي شؤون المسرح