بخاء - أحمد بن خليفة الشحي
يمثل التنقل الموسمي في محافظة مسندم ظاهرة بارزة في حياة البدو والحضر على حد سواء، حيث يعتمد السكان في معيشتهم على الرعي وتربية المواشي، مما يستدعي الانتقال (الظعن) وفقًا لتغيرات الطقس وتوفر الموارد الطبيعية. في فصل الصيف، يتوجه السكان إلى المناطق المرتفعة أو المظللة هربًا من الحرارة الشديدة، بينما ينتقلون في الشتاء إلى المراعي الجديدة التي تنشط بعد الأمطار، ويعد هذا النمط من التنقل أحد أشكال التكيف البيئي، التي حافظت عليها المجتمعات البدوية والحضرية في مسندم عبر الأجيال، بوصفه ضرورة اقتصادية وثقافية في الوقت ذاته.
وتعد عادة التحويل (الظعن) نظام التنقل والترحال لأهالي محافظة مسندم من منزلة لأخرى أي من مكان إقامة إلى آخر عند البدو (البدو والحضر معًا).
نظام حياة
التقت "عُمان" الدكتور راشد بن محمد الشحي الباحث في مجال التاريخ والموروث الشعبي بمحافظة مسندم، حيث قال في بداية حديثه: إن التغيّر المناخي يعد من أبرز الأسباب التي تدفع البدو إلى التنقل بين المناطق في فصلي الصيف والشتاء، ففي فصل الصيف ترتفع درجات الحرارة بشكل كبير ما يؤدي إلى جفاف المراعي وشحّ المياه، وهو ما يضطر البدو إلى الابتعاد عن المناطق الصحراوية القاحلة والتوجه إلى أماكن أكثر اعتدالًا مثل المرتفعات أو المناطق القريبة من البرك. أما في الشتاء ومع بداية تساقط الأمطار تزدهر النباتات وتُجدّد المراعي، مما يُغري البدو بالعودة إلى مناطق الرعي التقليدية للاستفادة من خصوبة الأرض وتحسين ظروف تغذية مواشيهم. هذا التنقل لا يُعدّ مجرد استجابة للظروف الطبيعية فحسب، بل هو جزء من نظام حياة متكامل يعتمد على ملاحظة دقيقة للتغيرات البيئية والتفاعل المستمر معها.
نظام التحويل
وعن نظام التحويل يشير الدكتور راشد الشحي إلى أن سكان الجبال لهم أربعة مواسم في السنة يرتحلون فيها، وهي: أولًا في فصل الشتاء موسم البرد القارس حيث يرتحل سكان الجبال في موسم الشتاء من ديارهم في أعلى القمم الجبلية لكون البرد قارسًا والأمطار الشتوية غزيرة الهطول، لذلك يتهيأ السكان للقيام بزراعة الحبوب في مزارعهم الصغيرة المسماة بـ"الوعب" وذلك بعد هطول الأمطار، ثم النزول من قمم الجبال إلى أسفلها وبكل ما عندهم من متاع وما يملكون من أنعام مستخدمين الدواب من الحمير أو الجمال في نقل الأمتعة إلى أن يحين الموسم الذي يليه.
موسم المشتى
ويضيف الشحي: أما في فصل الصيف موسم المشتى وهو موسم (فصل الخريف) ما إن تلوح في الأفق بشائر انتهاء فصل الشتاء وقدوم فصل الخريف (الصيف) يتهيأ السكان للصعود مرة أخرى إلى ديارهم في القمم الجبلية، فما أن يستقر الناس في بيوتهم إلا وقد جدوا في حصاد سنابل البر والشعير اليانعة التي حان قطافها، فيستمرون لفترة زمنية تقارب ثلاثة أو أربعة أشهر حتى الانتهاء من حصادهم وحفظ غلالهم، فيتهيؤون إلى تحويلة ثالثة ضمن برنامجهم السنوي مع بداية موجات الحر القائظ.
(القيظ) موسم الحر الشديد
ويقول الدكتور الباحث في مجال التاريخ والموروث الشعبي: ما إن يبدأ الحر القائظ ببث أشعته الحارقة ويأخذ نبات الأرض بالجفاف وماء البرك بالنضوب، يتهيأ السكان لبدء الرحلة الثالثة من رحلاتهم السنوية، إلا أن هذه الرحلة تختلف عن غيرها حيث يكون التحويل أو الانتقال إلى مركز الولاية وحواضرها حيث الساحل البحري ومزارع النخيل المثمرة اليانعة ومياه الآبار العذبة، ويستعد سكان كل منطقة بالرحيل قبله بأيام بعد تشاور واتفاق بينهم بموعد الارتحال إلى مركز الولاية والذي يطلق عليه "الحضران" أي يحضرون لها، ففي اليوم الذي يسبق الرحيل يسوقون الأغنام التي يريدون ارتحالها معهم و"تُزْرَب" أي تُحبس في حضائرها، وفي الصباح يتم ربط واحدة منها يقودها شخص والباقي تُساق من خلفها، بل إن البعض يستخدم كلاب الحراسة التي ترافقهم في حلهم وترحالهم، وفي هذه الرحلة الانتقالية يكونون حاملين معهم ما حصدوه من غلال القمح والشعير والعسل والجبن وغيرها من المواد والمصنوعات الجبلية لكي يتم بيعها لسكان الحواضر، حيث يعمد السكان المرتحلون لهذه الحواضر في موسم القيظ ممن ليس له مزرعة "نخل" إلى العمل بمزارع نخيل إخوانهم الحضر طيلة الموسم مقابل الحصول على التمر وفق نظام اقتصادي نفعي للطرفين، حيث يسمى الشخص الذي يتولى القيام بجني محصول النخيل بأكملها أو عدد محدود من أشجارها إلى حين قرب انتهاء الموسم والاستعداد للرحلة الرابعة وهي الختامية ويطلق عليه "القبيض أو القابض" أي قابض النخل.
جني محصول النخيل
ويضيف الدكتور الباحث في مجال التاريخ والموروث الشعبي: إن مفهوم "القبض" هو عادة زراعية موسمية، حيث يتولى شخص من غير ملاك المزارع جني ثمار النخيل وذلك بعد "جزم" محصول النخيل في بداية الموسم أي تقدير كمية غلته من قبل "الجزيم" وهو ممن عرف بالخبرة في المجال، ويحدد نصاب القبيض "القابض" منها مع نهاية موسم القيظ حيث يكون نصيبه من عشر وزنات وزنة واحدة، فإذا زادت غلة ثمار النخيل عن الكمية المقدرة من قبل الجزيم فإنها تكون من نصيب القبيض، أما إن نقصت فعلى القبيض تعويض صاحب المزرعة مقدار العجز من نصيبه ولا يُعذر بذلك ما لم يصفح مالك المزرعة "النخل". أما في حال اتفاق كميات الثمار مع مقدار الجزم فإن كلًا من الطرفين يأخذ نصيبه بالوفاء والتمام. وكانت تُقدّر الكمية بما يسمى محليًا "الوزنة" وهي وحدة قياس تقليدية آنذاك للوزن، فهي تعادل أربعة أمنان والمن يعادل أربعة كيلوجرامات. كما أنه يتولى القيام بكل الأمور والتبعات الخاصة بالنخيل في الموسم ذاته من شراطة وزفانة الدعون والحفاظ على المال وحراسته من العبث والتلف والضياع والسرقة لكونه له نصيب فيه، وأن التقصير به مردود عليه.
موسم فصل الربيع
واستطرد الدكتور راشد الشحي في حديثه بأن موسم الرحلة السنوية الرابعة وهي الختامية وذلك عند انقضاء موسم القيظ الحار ويطلق عليه "الترابيع"، وغالبًا يكون في شهر أغسطس من السنة الميلادية، فتكون العودة إلى الديار الجبلية حيث فترة يسودها الهدوء والاستقرار مع وجود النباتات التي تكسو قمم الجبال والهواء النقي والطيور الجبلية الشادية، وذلك لحين بدء الدورة السنوية الجديدة في نظام (التحويل) المنزلي.
رحلة الشتاء والصيف
أما بالنسبة لارتحال سكان المناطق الحضرية فيقول الدكتور الباحث في مجال التاريخ والموروث الشعبي: إن سكان الحضر لهم رحلتان في السنة ونستطيع أن نطلق عليهما "رحلة الشتاء والصيف"، حيث يقيم أهالي محافظة مسندم الحضر إقامة دائمة في مبانٍ من المواد الثابتة كالطين والطوب اللين وهي ما يطلق عليها "المخازن أو الكرايين"، وهي عبارة عن بيوت شتوية لها أسوار خارجية مبنية من الطين من مواد بناء غرف السكن والمعيشة نفسها. وعند بداية فصل الصيف الحار القائظ وتباشير طلوع ثمار النخيل يتهيأ أهالي الحواضر للتحول من مساكنهم الشتوية إلى المباني الصيفية التي تُشاد في مزارع النخيل والتي تُبنى من جذوع النخيل وسعفها وجريدها وجميع مشتقات النخلة والتي تسمى "العرشان" ومفردها "عريش"، حيث ظلال أشجار النخيل الوارفة والمياه الرقراقة العذبة والثمار الطيبة اليانعة. ومنهم من يشيد مساكنه الصيفية بالقرب من شاطئ البحر تحت مسمى "مقايض"، وغالبًا ما يكون ذلك لسكان القرى البحرية من قبيلتي الشحوح والظهوريين، حيث يقدم وبالأخص الظهوريون من قراهم البحرية الجبلية مع تباشير القيظ أي بداية فصل الصيف بسفنهم الخشبية "البتيل" وغيرها وهم رافعين أصواتهم بالأهازيج الشعبية مع نغمات الطبول معبرين عن فرحتهم بالتحول والحضور للمدينة، محملين معهم بعض مواشيهم وما صنعوه من أقوات كالجبن والعسل والبر. حيث يتم الاستعداد للحضور قبل الموعد بأسبوع أو أسبوعين وذلك بتنظيف السفن وصيانتها ودهنها بـ"الصل" لتبدو براقة جميلة وتحميلها بالمؤن المطلوبة، بعدها تتحرك السفن بصورة جماعية لحين الوصول لمركز الولاية، فيبدأون بنصب عرشانهم بالقرب من شاطئ البحر والتواصل مع معارفهم من سكان الولاية، ويستمر بهم المقام لحين انتهاء جني ثمار النخيل وإيذان فصل الصيف بالرحيل، فيهدمون عرشانهم وتُطوى الدعون على شكل خيم صغيرة مع الاحتفاظ بباقي الأغراض والأدوات للموسم القادم. وهكذا الحال ليحل موسم آخر، حينها يعود السكان قافلين إلى مساكنهم الشتوية في أحيائهم وقراهم الدائمة محملين بمجموعة من المؤن كالتمر والثوم والبصل والليمون اليابس والحناء وما يتوفر لهم من مواد ومؤن يحتاجونها في حياتهم المعيشية، ويسمى هذا الموسم "الترابيع"، فيقال الجماعة الفلانية تربعوا أي ارتحلوا فرحين بما رزقهم الله تعالى من محصول أدوا منه زكاة أموالهم طيبة بها أنفسهم، محتفظين بقدر منه لمعيشتهم وآخر للاتجار به وزيادة الدخل الأسري لهم.
نسيج تاريخي وثقافي
وفي الختام، أشار الباحث في مجال التاريخ والموروث الشعبي الدكتور راشد بن محمد بن عبدالله الشحي إلى أن الترحال يعد جزءًا أصيلًا من النسيج الثقافي والتاريخي في العديد من المحافظات في سلطنة عمان، حيث شكلت حياتهم المتنقلة وتقاليدهم العريقة أسلوبًا فريدًا في التعايش مع بيئات مختلفة طوال السنة، وهذا التعايش قائمًا على الاعتماد على النفس والتعاون المجتمعي، ومن المهم الحفاظ على هذا التراث الثقافي الغني وتوثيقه والاعتراف بمكانته في التاريخ الإنساني، ورغم تحديات العصر الحديث تبقى ثقافتهم وتراثهم جديرة بالحفظ والتقدير.

**media[3116756,3116755,3116754]**