نك كلغ 

في صيف عام 1930 وضع وزراء الحرب والبحرية الأمريكيون خطة عسكرية عُرفت باسم «الخطة الحمراء» (War Plan Red) في 94 صفحة تفصّل خططًا دقيقة لخنق القدرات البحرية والتجارية للمملكة المتحدة في سيناريو افتراضي تتورط فيه الولايات المتحدة وبريطانيا بحرب ضد بعضهما. وكانت الخطة تتمحور حول غزو بري شامل لكندا، وهجوم بحري على هاليفاكس، وحصار قناة بنما، والاستيلاء على الممتلكات البريطانية في الكاريبي والبهاما، وبرمودا، ثم مواجهة مباشرة مع الأسطول الملكي البريطاني عبر القوات البحرية الأمريكية في الأطلسي. 

بعيدًا عن الروايات الموشّاة بالحنين إلى «العلاقة الخاصة» عبر الأطلسي؛ فإن الاتحاد بين الدول الناطقة بالإنجليزية الذي تبلور بعد الحرب العالمية الأولى لم يكن كاملًا ولا خاليًا من الشكوك. على العكس؛ أثارت الحرب عداءً عميقًا وشكوكًا واسعة بين صناع القرار الأميركيين تجاه الإمبراطورية البريطانية. ورغم أن الكونجرس والرئيس لم يوافقا رسميًا على الخطة فإنها لم تكن مجرد تمرين نظري؛ فقد شيدت الولايات المتحدة قواعد جوية مموّهة كمطارات مدنية على طول الحدود الكندية. ولم تُلغَ الخطة إلا بهدوء بعد بروز تهديد النازية في منتصف الثلاثينيات، ولم يُرفع عنها الطابع السري حتى سبعينيات القرن العشرين. 

وجود «الخطة الحمراء» يذكّرنا بأن كثيرًا مما يُفترض أنه ثابت كالصخر في العلاقات عبر الأطلسي بعد الحرب العالمية الثانية - والتي صيغت تحت وطأة أهوال النازية، وضغوط الحرب الباردة - ليس إلا بناء حديثًا، بل أكثر هشاشة مما نتصور. فالنوستالجيا الضبابية لوحدة أمريكية-أوروبية لماضٍ ذهبي كانت دائمًا تقوم على العاطفة بقدر ما تستند إلى الواقع. فمن تهديد الرئيس دوايت أيزنهاور بإسقاط الجنيه الإسترليني أثناء أزمة السويس عام 1956 إلى معارضة واشنطن محاولات فرنسا الاحتفاظ بفيتنام والجزائر؛ كان تراجع النفوذ الأوروبي في مقابل صعود الهيمنة الأميركية ممهورًا بقدر من التنافس المكشوف لا يقل عن خطابات «الغرب المتماسك». 

من هنا فإن دونالد ترامب حين يلوّح -ولو من دون وعي كامل- بأطماعه «الإمبراطورية» في كندا، وغرينلاند، وقناة بنما؛ فهو يستند إلى سوابق تاريخية. وكذلك عندما يعلن شكوكه في أوروبا - فالولايات المتحدة -بحسب ترامب- «تشكّل الاتحاد الأوروبي أصلًا كي تضر بأمريكا». قمة «الناتو» هذا الصيف -التي وصفها الصحافي البريطاني مارتن كيتل بأنها «تذلل منظم على أقدام ترامب»- جسّدت اختلال ميزان العلاقة. وجاءت بعدها قمة ألاسكا التي منح فيها ترامب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استقبالًا ملوكيًا؛ لتؤكد الفكرة ذاتها: نقاش حول غزو بوتين قلب أوروبا جرى بلا حضور أي زعيم أوروبي. أما القادة الأوروبيون فكان نصيبهم صورة جماعية في البيت الأبيض مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي - صورة أقرب إلى طلاب مدارس يقفون في صف متشابكي الأيدي أمام مدير مدرسة متسلط. ولعل السنوات الثمانين الماضية من القيادة الأميركية عبر الأطلسي - التي أرست واحدًا من أعظم التحالفات الأمنية في التاريخ، وبنت جدارًا ديمقراطيًا ضد التهديد السوفييتي - قد تتضح أنها كانت استثناءً، لا قاعدة. 

ومن استمع بعناية إلى خطابات جي. دي. فانس مطلع هذا العام سواء في مؤتمر ميونيخ للأمن أو في قمة الذكاء الاصطناعي بباريس لا بد أنه لاحظ خليطًا جديدًا من التهديد والنزق في خطاب الحكومة الأمريكية. فإلى جانب الانتقاد التقليدي لاقتصاد أوروبا «البطيء والمثقل بالبيروقراطية» أوحت تلك الخطابات باستعداد لاستخدام النفوذ الأمريكي - واعتماد أوروبا عليه - للتدخل في سياستها الديمقراطية الداخلية. قال فانس في ميونيخ: «إن التهديد الذي يقلقني أكثر فيما يتعلق بأوروبا ليس روسيا، ولا الصين، ولا أي طرف خارجي آخر. ما يقلقني هو التهديد من الداخل». 

وبعد أن أعلن فانس دعمه لحزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، والتقى زعيمه عشية الانتخابات الألمانية، لم يُخفِ المستشار فريدريش ميرتس غضبه: «إن التدخلات القادمة من واشنطن لم تكن أقل دراماتيكية وخطورة وإثارة للغضب من تلك التي شهدناها من موسكو». 

في تجمّع انتخابي في بولندا قبل أيام من الانتخابات الرئاسية هناك بدا أن وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم تشير إلى أن الولايات المتحدة ستواصل دعمها لبولندا فقط إذا فاز المرشح المفضل لدى ترامب - المؤرخ المحافظ كارول ناوروكي. قالت نويم: «يجب أن يكون هو الرئيس القادم لبولندا. هل تفهمونني؟»، وأضافت أن فوز ناوروكي سيعني أن بولندا «ستواصل الحصول على وجود أمريكي هنا؛ وجود عسكري.» (وقد فاز ناوروكي فعلًا، وأُديت مراسم تنصيبه مطلع الشهر). 

كل هذا يوضح بجلاء أجندة ترامب-فانس؛ فبعيدًا عن تبني عقيدة انعزالية تقوم على «أمريكا أولًا» تسعى الإدارة الأميركية الحالية فيما يتعلق بأوروبا إلى فرض عقيدة «أمريكا في كل مكان»؛ حيث تُدعَم الأحزاب السياسية ذات النزعة القومية الشعبوية من واشنطن بفاعلية بينما تُنتقد بلا هوادة تلك التي لا تشاركها هذا التوجه. 

مثل كثير من الأوروبيين في جيلي؛ أنا ثمرة للنزعة الأطلسية. كان والدي واحدًا من قلة محظوظة من الأطفال الذين أُرسلوا إلى الولايات المتحدة طلبًا للأمان خلال ذروة القصف النازي على لندن. أما والدتي الهولندية فأُطلق سراحها من معسكر أسر تديره اليابان في إندونيسيا عقب الانتصار الأمريكي على طوكيو. درست الدراسات العليا في جامعة مينيسوتا، وعملت فترة قصيرة في مطلع التسعينيات مدققًا للحقائق في مجلة ذا نيشن. وفيما بعد لكوني مفاوضًا تجاريًا باسم الاتحاد الأوروبي وعضوًا في البرلمان الأوروبي؛ شاركت في جهود مشتركة مع إدارات أمريكية متعاقبة لبناء نظام تجاري عالمي قائم على القواعد، ثم كنائب لرئيس الوزراء البريطاني بين عامي 2010 و2015 تعاونت مع إدارة أوباما في مجموعة واسعة من القضايا المشتركة من عمليات مكافحة الإرهاب إلى الاتفاقات التجارية. ومؤخرًا أمضيت سبع سنوات كمدير تنفيذي رفيع في شركة ميتا في الخطوط الأمامية للثورة التكنولوجية - وما أثارته من جدالات محتدمة - المنبثقة من وادي السيليكون. 

باختصار؛ من الصعب عليّ أن أتخيل عالمًا لا تسير فيه أوروبا وأمريكا كتفًا إلى كتف، حتى حين تختلفان؛ فأنا أؤمن إيمانًا راسخًا بأن هذا الارتباط الفريد جعل العالم أكثر أمنًا وقوة وثراء. لكن حان الوقت لنتصور ما كان يومًا مستحيلًا تخيله؛ عالمًا تتحول فيه الأطلسية العميقة إلى تعاملات سطحية بحتة. 

جزء من تفكك هذه العلاقة يعود - بشكل مفارق - إلى حقيقة سطوع تفوق أمريكا على أوروبا، وهو تفوق تحقق بدرجة كبيرة بفضل حنكة الإدارات الأميركية السابقة؛ نظام تجاري مفتوح يقوم على الدور غير المنازع للدولار كعملة احتياطية عالمية، ونشر قدرات دفاعية وأمنية ساحقة، وجاذبية منظومة جامعات تتصدر العالم -رغم الهجوم الحالي -ولو مؤقتًا- من الإدارة الأمريكية على الأكاديميا-، وقوة اقتصادية قائمة على هيمنة أمريكية في التمويل الدولي والتكنولوجيا. وعلى كل هذه المقاييس تقدمت الولايات المتحدة كثيرًا على أوروبا. فعندما كنت نائبًا لرئيس الوزراء كان الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة وأوروبا متقاربًا تقريبًا. أما اليوم فقد أصبح الناتج الأمريكي أكبر بمرة ونصف تقريبًا. 

وليس غريبًا أن بعض المستثمرين في وادي السيليكون باتوا يتحدثون عن أوروبا باعتبارها «مكانًا ميتًا» - وهو وصف سمعته مرارًا في محادثات مختلفة - كما لو أن قارة يقطنها 500 مليون نسمة، وتزخر بقرون من الاكتشافات العلمية والثقافية ليست أكثر من متحف نصف كروي. وفي كثير من النواحي؛ فإن نخبة التكنولوجيا تكرر ببساطة السخرية التي وجهتها أجيال من المعلقين الأمريكيين نحو ما اعتبروه «انحطاطًا أوروبيًا». (يحضر إلى الذهن تعليق هـ. ل. منكن اللاذع: «هناك نوعان من الأوروبيين: الأذكياء، وأولئك الذين بقوا خلفهم»). وبالطبع؛ فإن هذا الاحتقار قابله دومًا تقليد طويل من التعالي الأوروبي على الأمريكيين «الفظّين». 

ومع ذلك تبدو الانقسامات اليوم أكثر حدّة؛ فبدلًا من المزاح اللطيف بين «العالم القديم» والجديد، أو الخلافات المحددة بين حلفاء منسجمين في الجوهر يجري تأطيرها على نحو متزايد بمنطق «المعادلة الصفرية». طبقة جديدة من القوميين الأمريكيين تعبر عن قلقها من نهاية «الحضارة الغربية» مروّجة لأيديولوجيا «الدم والتراب» التي ترفع شأن الإيمان والعائلة والولاء للأمة فوق القيم الديمقراطية. هؤلاء لا يسعون إلى التعاون بين الأنظمة السياسية أيًّا كان من يتولى السلطة، بل إلى تمكين أقرانهم الأيديولوجيين على حساب الجميع. إنها خضوع الدبلوماسية لتحزّب مسموم تغذيه شخصيات في عالم الأعمال والسياسة ترى في الشعبوية فرصة للنفوذ والمكاسب الشخصية. 

واحدة من السمات المتكررة في النقد الأميركي لأوروبا تتعلق بثقافة حرية التعبير المنبثقة من التعديل الأول للدستور. أحد الخطابات المفضلة لدى أنصار «لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا» هو أن أوروبا قارة خاضعة للرقابة. لكن هذه الحجة تفوح منها رائحة ازدواجية المعايير؛ ففي أمريكا ترامب يمكن أن يؤدي «القول الخطأ» إلى حرمانك من التمويل - أو إلى ترحيلك. صار المسافرون إلى الولايات المتحدة يمسحون بحذر أي محتوى من حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي قد يُفهم على أنه انتقاد للإدارة؛ خشية استجوابهم على الحدود. هكذا إذن تُختزل حرية التعبير. 

ورغم كل عيوب النهج الأوروبي في التعامل مع حرية التعبير؛ فإن الجامعات الأوروبية لا تنصح عادةً الطلاب الأمريكيين أو غيرهم من الأجانب بمحو رسائلهم الخاصة؛ خوفًا من إثارة انتباه السلطات. ومع ذلك سيكون من الحكمة أن يدرك الأوروبيون أن بعض الانتقادات تنطوي على نواة من الحقيقة؛ فالقوانين الأوروبية الجديدة التي تنظّم المحتوى على الإنترنت فوضوية وفضفاضة، ويبدو أنها غير قادرة على إصلاح مشكلات الفضاء الرقمي، بل قد تخلق هياكل يمكن أن تُستخدم لخنق النقاش المشروع. تمامًا كما يتجاهل الأمريكيون بسهولة الخوف العميق من التطرف السياسي في قارة غُمرت بالدم خلال حربين عالميتين، وشُوهت بالفاشية والشيوعية السوفييتية في الذاكرة الحية؛ فإنه لا ينبغي استخدام ظلال التاريخ لتبرير تقويض الحريات الأساسية اليوم. 

وتبرز الفوارق الحادة كذلك في المواقف تجاه الأسواق والتنظيم. من الواضح أن أمريكا وأوروبا لن تتقاسما يومًا النظرة ذاتها للمخاطر؛ فالنهج الأميركي القائم على «النجاة للأقوى» في التعامل مع الفقر لا يمكن تصوره بالنسبة لمعظم الأوروبيين، ليس أقل لأنهم يربطونه تاريخيًا بصعود التطرف الذي ألحق بالقارة دمارًا في القرن العشرين. وبالمثل؛ فإن النهج الأوروبي المتحفظ - وأحيانًا المفرط في العرقلة الذاتية - تجاه التنظيم يبدو غير مفهوم للأمريكيين الذين يرون كيف أفضت ثقافة الابتكار الجامحة إلى ثروات هائلة وإبداع غير مسبوق. 

هذه التجارب المختلفة شكّلت -بطبيعة الحال- ثقافتين عمليتين متمايزتين: الثقافة الأمريكية التي ترفض تلقائيًا أي قيود على المبادرة الفردية مهما كانت تبعاتها الاجتماعية، والثقافة الأوروبية التي تنفر غريزيًا من الفردانية المتطرفة حتى لو كان ذلك على حساب الحيوية الاقتصادية الماسة. الحقيقة أن مؤسسات أوروبا كثيرًا ما تكبح المبدعين والشركات ساعيةً إلى منع كل ضرر محتمل بدلًا من تحقيق أي منفعة ممكنة. 

ورغم الرغبة في النظر إلى «الغرب» كمنظومة قيم مشتركة تنبع من رؤية أساسية واحدة؛ فإن أوروبا وأمريكا أكثر اختلافًا مما توحي به ثقافتنا المشتركة - من هنري جيمس إلى هوليوود. تاريخنا وتجاربنا مختلفة، ومجتمعاتنا ومواقفنا مختلفة، وموقعنا في العالم مختلف أيضًا. ولم يبرز هذا التباين بوضوح كما برز في التحول الجذري في موقف الحكومة الأمريكية تجاه الكرملين. فإذا كان ما تلا الحرب العالمية الثانية هو الأساس الذي بُنيت عليه التضامنية عبر الأطلسي فإن الوقوف الموحد ضد الطموحات السلطوية لروسيا كان بمثابة جدران هذا البناء خلال الحرب الباردة. لكن ذكريات الماضي تلاشت الآن، واختار ترامب أن يمنح بوتين قدرًا من الاحترام السياسي أكبر مما يمنحه كثير من القادة الأوروبيين. 

لقد هزّ هذا التحول المفاجئ أسس الأطلسية في جوهرها. وبينما أدرك الأوروبيون -وإن متأخرين- ضرورة تحمّل نصيب أكبر من كلفة أمنهم فإن الوعي بأن أوروبا وأمريكا تنظران إلى التهديدات الجيوسياسية من زوايا متباينة جذريًا يترسخ اليوم أكثر من أي وقت مضى. الرسالة الأمريكية الأساسية مؤخرًا إلى أوروبا هي: أنتم بمفردكم. لا تتوقعوا الكثير من المساعدة منا بعد الآن. وحقيقة أن حافلة كاملة من القادة الأوروبيين اضطرت إلى محاصرة ترامب لإقناعه بفكرة لم تكن مثيرة للجدل قط أن تلعب الولايات المتحدة دورًا ما -ولو من دون إرسال قوات برية-؛ لضمان مستقبل أمني لأوكرانيا إنما تعكس عمق التغيير. لكن المنطق يسري في الاتجاهين؛ ففي السنوات المقبلة سيصعب على واشنطن أن تصر على أن تتبعها أوروبا في عزل الصين وإضعافها، خصوصًا إذا أضر ذلك بازدهارها. وإذا استمرت الولايات المتحدة في الموقف المتردد تجاه التهديد الروسي على عتبة أوروبا - لا سيما إذا منحت أي تسوية في أوكرانيا لبوتين يدًا حرة لزعزعة الاستقرار أو شن غزو جديد - وفي الوقت ذاته واصلت التدخل في الانتخابات الأوروبية، وفرض الرسوم الجمركية؛ فسيجد القادة الأوروبيون صعوبة في إقناع الناخبين بضرورة مساعدة «العم سام» في صراعه مع بكين. 

وفي كل هذا تبدو حقائق الجغرافيا الثابتة وكأنها تعيد فرض نفسها؛ فأوروبا لا تواجه آسيا عبر المحيط الهادئ، والدبابات الروسية لن تصل يومًا إلى الأراضي الأمريكية. أمريكا محظوظة بامتلاكها إرثًا جغرافيًا فريدًا؛ دولة فتية بحجم قارة تحميها محيطات شاسعة من الجانبين، وتجاور شمالًا وجنوبًا جيرانًا في الغالب متعاونين، وتاريخها الوطني شبه خالٍ من الغزو الخارجي (وإن لم يخلُ من الهجمات الأجنبية)، وقد عرفت كيف تستثمر هذه الميزة الطبيعية لتصل إلى موقع الهيمنة الذي تقف فيه اليوم بلا منازع. قارن ذلك بأوروبا؛ ذلك النسيج القديم المتداخل من أمم متوسطة وصغيرة بهويات إثنية ودينية ولغوية ممتدة قرونًا تتجاور على قارة مزدحمة، وبيئة محفوفة بالمخاطر. بالنسبة لمعظم الأمريكيين؛ صراعات الشرق الأوسط مأساة بعيدة. أما بالنسبة للأوروبيين فهي على عتباتهم. روسيا تهدد باستمرار؛ حرب برية مستعرة في قلب القارة. وأزمة الهجرة عبر المتوسط من أفريقيا تواصل تمزيق الحكومات الأوروبية. إن موقع أوروبا ببساطة أكثر هشاشة بكثير مما يقدّره الأميركيون. 

إن التحول الراهن في السياسة الأميركية يمثل فصلًا جديدًا في تواريخ قارتينا المتباينة. إنه ليس نزوة عابرة مهما تمنى منتقدو ترامب غير ذلك؛ فشريحة معتبرة من الناخبين الأمريكيين تؤيد رؤية «أمريكا أولًا» المتصلبة، وهذه لن تختفي بين ليلة وضحاها، ولا المسافة المتنامية بين أوروبا وأمريكا. وربما يكون هذا هو الدرس الأهم؛ فبدلاً من أن نصدم فجأة باكتشاف أننا مختلفون جدًا ربما الأجدى أن نتبنى علاقة أطلسية أكثر نضجًا تعترف بتلك الاختلافات، بل تحتفي بها؛ فلا شيء يمنع من قيام علاقة مثمرة - جيوسياسية واقتصادية وثقافية - رغم هذه الفوارق. 

إن التعامل مع المسافة الحتمية بين حياة شعوبنا ورؤاهم لا يتطلب رفع الأيدي استسلامًا، بل البحث عن نقاط التلاقي في مصالحنا المشتركة. فنحن قارتان وُلدنا من رحم التنوير، ومتجذرتان في الديمقراطية، ويمكننا أن نجد سبلًا للعمل معًا لتحقيق أهداف ملموسة بعيدًا عن الأعباء العاطفية التي تفرضها أوهام القرابة القسرية. 

إيجاد توازن جديد سيتطلب قدرًا من التواضع من الجانبين. على ترامب وفانس ورفاقهما أن يتوقفوا عن الاعتقاد - رغم أنه أمر مستبعد الآن - بأن «أمريكا أولًا» يجب أن تعني «أمريكا في كل مكان»، وكأن على أوروبا أن تخضع لرؤية أحادية للحرية يروج لها اليمين المتشدد في الولايات المتحدة. وعلى الأوروبيين أن يكفوا عن الرثاء لكون الولايات المتحدة اختارت مسارًا مختلفًا تحكمه رؤية أخرى، وأن يعملوا بدلًا من ذلك على تقوية قارتهم. وربما -مثل زوجين يستمران في زواج فقد سحره الأول- نخرج أقوى من إدراك حقيقة أساسية: نحن مختلفون، ولا بأس في ذلك. 

 نك كلغ ‏نائب رئيس وزراء البريطاني من 11 مايو 2010، وزعيم حزب الديمقراطيين الليبراليين منذ 18 ديسمبر 2007. 

 عن ذي أتلانتك «خدمة تربيون» 

 تمت الترجمة باستخدام الذكاء الاصطناعي