تُشكل الفعاليات الثقافية في أي مجتمع معيارًا حقيقيًا للفاعلين الثقافيين سواء بصفتهم منتجين أو مستهلكين، وعليه يُقاس رغبة الجماهير في التأثير والتأثر، والرد والتلقي، إضافة إلى معرفة مدى تأثير الثقافة في خيارات الفرد في حياته الشخصية، وانعكاس ذلك على المجتمع الذي ينتمي إليه. 

ومع أهمية النشاط الثقافي وتنشيطه من قبل المؤسسات المنفذة للبرامج والأنشطة المدرجة في قائمة خططها، إلا أن العزوف عن الحضور أصبح ظاهرة عامة في الوطن العربي. 

وقد كُتب الكثير حول هذه الظاهرة، لكننا لن نناقشها، بل سنتطرق إلى الفعاليات الجماهيرية التي يتجاوز فيها الحضور الألف وأكثر؛ إذ يُمكن طرح عدة أسئلة عن الأثر الذي تتركه الحشود بعد كل فعالية، فهل يغير حضورَها شيء على عين المكان، أم أنها تماثل جماهير البطولات الرياضية التي يقودها الحماس إلى وجودهم في الصالات وعلى المدرجات. 

إذ لُوحظ في الآونة الأخيرة حضور جماهيري لافت للنظر في بعض الندوات الثقافية في مدينة صلالة لكتّاب من خارج سلطنة عمان. هذه الفعاليات التي يقبل عليها الجمهور لا يستحسنها الشاعر السوري أدونيس، بل يصفها بالابتذال رغم أن بعض محاضرات أو ندوات أدونيس نفسه تحظى بحضور جماهيري؛ إذ يلعب اسم الضيف دورًا كبيرًا في حضور الجماهير أو التخلي عن المجيء، فمعظم الحضور يأتي فقط لرؤية المتحدث، ولا يهمه الموضوع المطروح. والبعض يأتي للتصوير وصناعة محتوى إلكتروني من قلب الحدث. هذا الأمر يدحض فرضية عزوف الجماهير عن الفعاليات الثقافية التقليدية ـ الندوات والمحاضرات معارض الفنون التشكيلية ـ بسبب وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ وفرت المعلومة للجمهور وسمحت له بمتابعة الفعاليات والأحداث عن بعد، وبالتالي لم يعد الفرد بحاجة إلى الحضور الجسدي؛ حيث سهّلت منصات التواصل المتعددة بث الأحداث على الهواء مباشرة، الأمر الذي خلق عدد من المؤثرين الثقافيين والنجوم الذين صقلوا وفق خطط وبرامج مُوِلت لتلميع نجم مُعين حسب الجهة الداعمة والممولة لنشاطه، والنجم الذي فرضته وسائل التواصل الاجتماعي يفتقر في العادة إلى عمق المحتوى الذي يقدمه، بينما يسهم عدد المتابعين وحصاد الإعجابات في فرض المؤثر على المتلقين، ومن خلال حضور بعض الفعاليات التي يقدمها نجوم الفضاء الثقافي يتبين بأن الجمهور يخضع لتأثير سلطة الترويج والإعلان، ولم يمنح نفسه فرصة للمراجعة أو التساؤل عن الأثر الإيجابي المنتظر. وكأن الهدف من الحضور هو الحضور في الحدث وصناعة محتوى موازٍ يتمثل في التصوير والنشر في الحسابات الشخصية للمشارك، وليس الاستماع للفكر المطروح والرد على قائله أو مناقشته فيما يقوله، وكأن الخطاب المُقدم ما هو إلا وجبه سريعة التحضير والاستهلاك. 

يرى البعض أن مجانية الفعاليات أسهمت إلى حد كبير في ابتعاد الجمهور عن الفعاليات المتاحة بالمجان، بينما الفعاليات مدفوعة الأجر تلقى قبول واهتمام بعض العوام، والدليل على ذلك كثافة الدورات التدريبية في مجال البرمجة الذهنية وما يرافقها من بيع «الهواء في القوارير» كما يقول المثل، تحت عناوين واهية مثل التحفيز ورسم طرق النجاح وغيرها من المصطلحات والعناوين التي جنى أصحابها المال من سذاجة الآخرين. صحيح أن جل الفعاليات الثقافية في بعض الدولة الأوروبية تفرض رسوم حسب أهمية وقيمة النشاط، وحتى معارض الكتب الدولية تفرض رسوم على الزوار، مثل معرض فرانكفورت للكتاب. 

تبقى الأحداث الثقافية من أهم المناسبات التي تجمع الفاعلين الثقافيين من الكتاب والفنانين ومن يشاركهم في المجال من ناشرين وممثلين، هذا الجانب الاجتماعي يمثل للمثقف حافزا للاستمرار والعطاء في مجال إنتاجه، كما يمنحه اللقاء بالجمهور فرصة للاستماع إلى رأي الجمهور وانطباعه. 

محمد الشحري كاتب وروائي عماني