أفاق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذات صباح على حلم جميل سكنه منذ الليلة الفائتة. كانت جائزة نوبل تتدلى بين ناظريه وطريق الجنة يتراءى له، فهرع إلى المكتب البيضاوي فأزال الستارة عن النافذة ناظرًا للخارج فلم يشاهد إلا الغبشة لا تزال تملأ الأفق، وقف بكل فخر والسعادة تغمره فلم يسمع إلا هسيس بعض الخطوات حول البيت الأبيض، وهو منتشٍ بهذا الإحساس الذي لا يغادره. انتظر حتى التم شمل ثلة من معاونيه فجمعهم على عجل ليعلن لهم ما يراه نصرًا مبينًا مؤزرًا وقال: «أنا الذي أنهيت ست حروب في ستة أشهر، وتذكروا أنا من فاوض وأدى إلى إطلاق سراح مئات الرهائن لإسرائيل وأمريكا، وأنا من دمر المنشآت النووية الإيرانية، العب للفوز أولا أو لا تلعب».
يوغل الرئيس الأمريكي في حلمه الأثير فيوكل لمعاونيه تكثيف البحث في كل الاتجاهات ليبحثوا عن حرب مشتعلة فيهرع إلى إخمادها أو أزمة متفجرة فيعمل على تهدئتها؛ كل ذلك وجائزة نوبل للسلام يعتقد أن قطافها باتت دانية والجنة أضحى طريقها سالكا له.
ترامب ومنذ عودته إلى البيت الأبيض وهو يرفع شعار رجل السلام إذ لا حروب ولا أزمات في عهده ويعمل جاهدا على وقف الحروب المشتعلة في بقاع الأرض من غزة إلى أوكرانيا، ويقيم المصالحة بين الخصوم كالمصالحة بين كازخستان وأذربيجان. الرجل يلهث لإثبات أنه رجل سلام ومرشح لنيل الجائزة كما رشحه العديد من المسؤولين منهم وزير الدفاع الباكستاني وغيره. وقد وصف أحد الدعاة بأن أمريكا في عهده تقود العالم إلى مرافئ السلام. وهو صانع سلام براغماتي كما وصفه مؤخرا أمين عام الناتو مارك روتا.
ما الذي يدفع ترامب رجل الصفقات والمضارب العقاري كما يعرف بالتصريح عن رغبته في الفوز بجائزة نوبل للسلام؟ شيئان الأول هو شخصيته النرجسية، فهو معتد بنفسه لدرجة الألوهية والمبنية على الانتصار والفوز الدائم وعدم القبول بالهزيمة أو التراجع، وهذه بحد ذاتها نرجسية مقيتة. ورأينا كلنا تجسيد ذلك في هزيمته بالانتخابات الرئاسية أمام المرشح الرئاسي والرئيس الأمريكي جو بايدن وجاءته صدمة ولم يتقبلها واتهم الدولة العميقة بتزوير الانتخابات وكيف أوعز لمؤيديه إلى احتلال مبنى الكونجرس وإشاعة الفوضى في واشنطن وكذلك طبيعته ومهنيته التجارية بصفته تاجرا يعقد الصفقات، والثاني ولربما هو الأهم هو مناكفة الديمقراطيين والعقدة من باراك أوباما الرئيس الأمريكي الأسبق بالأساس الذي فاز بالجائزة في بداية حكمه.
بماذا نفسر ذلك؟ وسعي ترامب والذين يرشحونه لنوبل ومنهم وزير خارجية باكستان، هل هو غرور وغطرسة أم هو فصام عن الواقع «شيزوفرينيا» أم أن هذه النوعية من البشر لديهم منظورهم ومفاهيمهم الخاصة عن سائر البشر لا يرون ولا يسمعون من خلالها إلا مبادئهم وأخلاقهم وإنسانيتهم وقوانينهم التي تختلف عنا جميعا، فالليل لديهم ليس كما نعرفه نحن والشمس الساطعة ليست بالضرورة تعني الوضوح، حتى الألوان لديهم تختلف، فهم لا يعيشون إلا في المناطق الضبابية ولا يحبون الوضوح والإنارة مثلنا.
لن نستغرب إذا ما حصل ترامب على نوبل للسلام. رغم شخصيته المثيرة للجدل. ولما لا يحصل عليها؟ حاله حال الكثيرين قبله.
وربما سوف أستغرب لو لم يحصل عليها. فالرجل لا ينقصه شيء فهو رجل سلام وفق ما يروج له ويتبناه هو وأعضاء إدارته ومؤيديه. لكن أي سلام ذلك الذي يعنيه؟ بالتأكيد ليس ذلك السلام الذي تنشده الشعوب الحرة المستضعفة. وبكل صراحة لن نتفاجأ إذا ما حصل ذلك ومنح الجائزة. وفي الوقت نفسه، لن أتفاجأ شخصيا إذا حصل عليها حتى مناصفة مع نتنياهو لدورهم في (السلام)، ولن أتفاجأ كذلك إذا رشح لها سموتريش وبن غفير وغيرهم من عتاة المجرمين القتلة، بل وسيجدون من يدعمهم ويصفق لهم وقد يكون من بني جلدتنا العرب أيضا.
هذه الجائزة وغيرها من الجوائز وضعوها هم وفق منظورهم وفكرهم فمن وافق هواهم يعطى لها ومن خالفهم ليس له إلا الويل والثبور. فمثلا منحت الجائزة للمعارضة البورمية ثم بدأت في قمع المسلمين وإنكار مذابحهم إلى أن ضاقت منها ذرعا حتى الطغمة العسكرية وانقلبت عليها وأودعت السجن ونسيت هناك.
كنت مرة أستمع لمقابلة مع صحفي مفرج عنه من سجن غوانتنامو وذكر في المقابلة بأن المخابرات الأمريكية وأثناء جلسات التحقيق معه قدمت له الكثير من العروض للتعاون معهم مقابل أن يعمل جاسوساً لصالحهم وكان ضمن هذه العروض هو تسهيل حصوله على جوائز عالمية في الصحافة، وحقوق الإنسان، والسلام، وغيرها. وهذا الكلام يذكرنا بما يثار حاليا من ترشيح ترامب لجائزة نوبل للسلام.
ترامب يستحمر العالم كله، والعالم للآسف يقبل الاستحمار ويمتن لترامب، وكأن الاستحمار بات يغزو العالم كله وأصبح العالم لديه قابلية للاستحمار.
هذا الرجل الذي يوصف برجل السلام والباحث عن نوبل للسلام وسط الدمار الركام والخراب بقوة الرجل لا يترك فرصة سانحة في إشعال بؤر التوتر وخلق الأزمات من غزة ودعمه اللامحدود للعصابة الصهيونية وعلى رأسها مجرم حرب مطلوب دوليا مرورا في شيطنة شعوب بأكملها وأمم في منعهم من دخول أمريكا وكذلك فرض المزيد من القيود وفرض ضرائب جمركية عاليا ضارب بعرض الحائط اتفاقيات ألجأت والتجارة الحرة وفتح الأسواق وإزالة القيود وهي العولمة التي بشروا بها.
كل ذلك في كفة وفي الكفة الأخرى لا يبرأ لا هو ولا داعميه من دعمه ووقوفه خلف نتنياهو في حرب الإبادة في غزة وغض النظر عما ترتكب من جرائم هناك ومشاركته في تجويع أهل غزة وقتلهم عن طريق اصطيادهم عند نقاط توزيع الطعام، يريد أن يحرر الأسرى الإسرائيليين بالتدمير والقتل والإسراع في الإفناء. وكذلك حربه التي شنها على إيران واليمن وقتله الأبرياء.
أهذا السلام الذي يريد أن يرسيه ترامب ويسعى إلى تحقيقه؟ أهذه أفعال لمن أراد، ويسعى بشدة لنيل جائزة نوبل للسلام؟ لكن على كل حال لا شيء مستغرب في هذا العالم، كل شيء ممكن.
د. بدر الشيدي قاص عماني