أصبحت سوريا ساحة مستباحة إسرائيليًّا تسرح فيها وتمرح كيفما تشاء دون رد حقيقي من قبل الجيش السوري. وخيرُ شاهد هو الإنزال العسكري الأخير على ثكنة عسكرية بمنطقة الكسوة بريف دمشق يوم الأربعاء الماضي؛ فهو لم يكن الأول، ولن يكون الأخير، ما يؤكد خروج سوريا نهائيًّا من المواجهة. 

الكلُّ يتذكر أنّ إسرائيل سارعت لحظة سقوط بشار الأسد إلى التوغل في الجنوب السوري، واعتبرت اتفاقية فض الاشتباك التي وُقِّعت بين دمشق وتل أبيب عام 1974 ملغاة؛ بسبب التغيير السياسي الحاصل في دمشق. ولم تكتف بالدخول إلى المنطقة العازلة فقط، بل سيطرت أيضًا على قمة جبل الشيخ الإستراتيجي ومرصده، وشنّت 300 غارة جوية أدّت إلى تدمير جل البنية التحتية العسكرية التي تركها الرئيس السوري، ومستودعات السلاح والصواريخ الإستراتيجية، ومراكز البحث العلمي والتصنيع العسكري، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول السيادة الوطنية السورية بعد الحديث الدائر عن تطبيع العلاقة بين سوريا وإسرائيل. 

منذ بداية المرحلة الانتقالية ركزت دمشق على تجنب التصعيد العسكري؛ ربما لأسباب سياسية، ومنها أيضًا العجز عن الرد العسكري المباشر على تلك الغارات المتكررة. ونعلم ما يعانيه الجيش السوري من ضعف بنيوي بعد سنوات الحرب؛ فليس للجيش السوري الآن وجودٌ حقيقي؛ لأنه أنهك من خلال معارك داخلية طوال عقد كامل، ثم تكفلت إسرائيل بالقضاء على الباقي. هذا غير الحديث المتواصل عن اتجاه سوريا للانضمام إلى ما يسمى الاتفاقيات الإبراهيمية عبر وساطات إقليمية غير معلنة بحسب ما نشره موقع «المونيتور» في فبراير 2025. 

ولكن ما المانع أن تدافع سوريا عن كرامتها أمام كلِّ تلك الاعتداءات حتى وإن كانت في طريقها للتطبيع؟! والسؤال الأهم هو: هل سوريا فعلًا في طريقها للتطبيع؟ 

الواضح الآن أنّ الوضع الهش في سوريا يؤدي إلى هذا الاتجاه؛ إذ أبدى الرئيس الانتقالي انفتاحًا مشروطًا على الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، لكنّ هذا الانفتاح يصطدم بجدار من الرفض الشعبي، خصوصًا من القوى القومية والإسلامية التي ترى في أيِّ تقارب مع إسرائيل خيانة لدماء الشهداء. ولكن هل لمثل هؤلاء صوتٌ الآن في الوطن العربي؟! 

عمومًا؛ عقب سقوط نظام الرئيس بشار الأسد شهدت العلاقات السورية الإسرائيلية تغيرًا جذريًّا؛ ففي مايو 2025 أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال «منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي» عن رفع العقوبات عن سوريا، ودعا القيادة السورية الجديدة إلى الانضمام لاتفاقيات أبراهام وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وتلا ذلك محادثات سرية بين وفود سورية وإسرائيلية في أذربيجان بوساطة إماراتية. ويبدو أنّ الولايات المتحدة تعوِّل كثيرًا على سوريا في رسمها للخارطة الجديدة في الشرق الأوسط؛ فقد صرح وزير خارجيتها ماركو روبيو أنّ «واشنطن ترى في انفتاح سوريا على التطبيع مع إسرائيل أولوية استراتيجية». وقد حاولت الإدارة السورية إظهار حسن نيتها - تجاه إسرائيل - حين وافقت في مايو 2025 على تسليم أرشيف ومقتنيات الجاسوس الإسرائيلي الراحل إيلي كوهين إلى إسرائيل في محاولة لخفض التوترات، وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين مع بعض التصريحات التي يستشف منها غزلًا سوريًّا مبطنًا لإسرائيل. 

واضح تمامًا أنّ الكيان الإسرائيلي ليس مهتمًا الآن بالتطبيع مع سوريا، وليس في عجلة من أمره بعد أن اختلفت الأوضاع على الأرض، فهو يستبيح سوريا كيفما يشاء ووقتما يشاء - كما أشرتُ سابقًا -؛ إذ إنّ سوريا أصبحت مضمونة. لذا يطالب هذا الكيان بضمانات أمنية صارمة تشمل نزع سلاح الجماعات المسلحة جنوب سوريا، بل الأصعب من ذلك أن يطالب بالاعتراف بسيادته على الجولان حسبما نشرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في مارس الماضي ما يضع الحكومة السورية في مأزق. 

أمام استباحة سوريا بهذه الطريقة يبرز سؤال: هل حان وقت «البكاء على بشار الأسد»؟ السؤال يعكس جدلًا حقيقيًّا، وهو السؤال الذي طرح في العراق بعد صدام حسين، وفي ليبيا بعد القذافي، وفي تونس بعد زين العابدين بن علي، وهذه ذاتها من المفارقات العربية كما قال الشاعر: 

دعوتُ على عمرو فمات فسرّني 

وعاشرتُ أقوامًا بكيتُ على عمرو 

هناك من يرى أنّ الأسد - رغم استبداده - كان حاجزًا أمام مشاريع التقسيم والاختراق الإسرائيلي، ولا يمكن تجاهل مثل هذا الرأي؛ لأنّ ما يحدث في سوريا الآن يثبت ذلك. ويُحسب للرجل أنه - مثل أبيه - ذهب ولم يصافح ولم يتنازل. 

إنّ الإنزال الإسرائيلي الأخير بالقرب من دمشق مؤشرٌ على مرحلة جديدة تتجاوز منطق الردع التقليدي، وتعيد تشكيل علاقة بين دولة عربية وبين كيان محتل ظلا في حالة عداء منذ أكثر من نصف قرن. وتدرك إسرائيل جيدًا أنّ سوريا اليوم ليست سوريا الأمس؛ لذا تسعى لتثبيت وقائع ميدانية على الأرض قبل أن تُرسم خرائط السلام. 

أما الشعب السوري الذي رضع مبادئ القومية والصمود والتصدي فهو اليوم أمام اختبار جديد: هل يقبل بسلام مفروض من فوق مع كيان كان يعتبره عدوًا أكثر من سبعين عامًا، أم يفرض شروطه من تحت، ولو بصوت خافت؟ 

وفي ظنّي - حسب المعطيات - أنّ تطبيع سوريا قادمٌ، وهي مسألة وقت فقط. والمؤكد أنّ سوريا الجديدة ليست هي القديمة، وأنّ المنطقة تقف على أعتاب مرحلة تعيد رسم خرائط النفوذ والتحالفات بما يعطي السيطرة الكاملة للكيان الصهيوني. 

زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن السياسي الإقليمي