يبدأ اليوم العام الدراسي الجديد، وتعود الحياة إلى المدارس والجامعات بعد شهرين من تمتع الطلاب بالإجازة الصيفية.. وهذه العودة السنوية تعيد إلى أذهاننا معنى الاستمرارية في حياة المجتمعات وفي حياة الإنسان نفسه في بعدها الفردي، وأعني بالاستمرارية هنا استمرارية الفعل الحضاري المتحقق باستمرار التعليم ودعمه من قبل الدولة والمجتمع، واستمرار تحقيق الإنسان لإنسانيته عبر التعليم وبناء الوعي، الوعي بالذات والوعي بالعالم.
لكنّ، هذه العودة السنوية، تذكرنا بتحد كبير آخذ في التنامي في بعض المجتمعات ويستحق أن نقف معه وقفة صريحة وجدية، وهو تحد تبلوره تساؤلات الكثير من الطلاب وأولياء أمورهم حول الجدوى من التعليم إذا كان خريجو أرقى الجامعات في العالم عاجزين عن العثور على وظائف، أو مضطرين للعمل في مهن لا تحتاج أصلا إلى سنوات طويلة من الدراسة والبحث؟!
نسمع هذا السؤال في عُمان في السنوات الأخيرة على لسان الآباء، ثم صرنا نسمع من طلاب المدارس والجامعات.. والحق أنه ليس سؤالا مقتصر على عُمان وحدها ولكنه حاضر في النقاشات العالمية؛ إذ كشفت صحيفة فايننشال تايمز مؤخرا عن أنّ العام الماضي كان الأسوأ بالنسبة إلى الخريجين الجدد في بريطانيا منذ عقود، فيما رصدت صحيفة وول ستريت جورنال كيف تحوّلت أحلام ملايين الشباب في آسيا وإفريقيا من وعود بالارتقاء الاجتماعي عبر الجامعة/التعليم، إلى خيبة جماعية يختلط فيها الإحباط بالمرارة!
لا يكمن الخطر الحقيقي لهذه التساؤلات التي قد تقود البعض إلى اليقينيات، في مشكلة الوظائف وحدها، ولكن في الأثر الذي تتركه في إدراك الناس لقيمة التعليم وأهميته. ونسمع عن نماذج في بلادنا تركت التعليم الجامعي عندما وجدت بصيص فرصة للحصول على وظيفة لا تحتاج إلى شهادة جامعية، ولكنها حاضرة ومضمونة، وآخرين خفت تفوقهم المدرسي بعد أن حاصرتهم أسئلة من قبيل ماذا بعد التفوق وماذا بعد سنوات التعليم والجد والاجتهاد؟! وهناك عائلات، في عُمان وفي العالم، لم تعد ترى في الشهادة الجامعية استثمارا مجديا يمكن أن يصنع تغييرا جذريا في حياتها الاجتماعية والمالية!
قد تبدو هذه الأطروحات في بعدها الأولي والسطحي مفهومة وتستحق أن نصغي لها، وهي تستحق الإصغاء فعلا مهما اختلفنا معها، لكنها تكشف عن أزمة ثقة كبيرة وخطيرة، تفقد فيها المجتمعات ثقتها في التعليم من أجل ذاته ومن أجل المجتمع قبل الفرد، وبالتالي يتخلخل أحد أهم أعمدة بناء الدولة الحديثة، وهو التعليم، وأحد أهم مسارات القدرة على تصور المستقبل وبالتالي الذهاب نحوه.
لا يتعلق هذا الموضوع فيما أفهم بالجانب الفردي، ولكن بالمجتمع. لا يحدث التغيير في المجتمعات دون تعليم، ولا يحدث استقرار دونه، ولا قدرة على بناء المستقبل. وهذا العقد بين الدولة والمجتمع عبر وسيط «التعليم» هو الذي صنع التحول في سلطنة عمان بعد عام 1970، وبدونه لم يكن لعُمان أن تكون على ما هي عليه اليوم. وهو الذي مكّن الطبقات الوسطى من النمو في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو الذي سمح لمجتمعات شرق آسيا، من اليابان إلى كوريا الجنوبية، أن تنتقل بسرعة من الفقر إلى الازدهار. ولا ينبغي لأي طرف من أطراف هذا العقد الإخلال به، لا الدولة تتراجع عن دورها في توفير التعليم وتطويره ومواءمته مع متطلبات المرحلة وعن حماية مستقبل المتعلمين ولا المجتمع يفقد ثقته في التعليم ودوره في تحقيق استقراره وتمهيد الطريق نحو مستقبله.
ومن يعود إلى أحداث التاريخ يكتشف أن المجتمعات التي فقدت ثقتها أو احترامها بالتعليم دفعت الثمن باهظا جدا. حدث ذلك في عصور بعيدة ماضية حينما غرق العالم في الظلام والتخلف كما كان الوضع في أوروبا.. وأدركت اليابان عندما خرجت من الحرب العالمية الثانية أن «المعلم» هو الذي يستطيع إنقاذها مما هي فيه في تلك اللحظة من الدمار والاستسلام، فبنت مشروعها الوطني على التعليم. والأمر نفسه فعله السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- عندما تسلم حكم عُمان، فكان مشروعه الوطني لاستعادة أمجاد عُمان قائم على التعليم حتى قال مقولته الخالدة «سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل شجرة» وهو يعبر هنا عن حقيقة أن السرعة في التعليم تسبق حتى التفكير في مشروع إنجاز المباني المدرسية في دلالة واضحة أن المجتمعات لا يمكن أن تستمر دون جعل المعرفة جزءا أساسيا في مسيرتها اليومية.
رغم ذلك فلا أحد يصادر حق الجميع في الحصول على فرص عمل حقيقية، يستطيع من خلالها الأفراد تحقيق ذواتهم وبناء حاضرهم ومستقبلهم، وبناء مجتمعهم ووطنهم، هذا حق أصيل لا جدال فيه. لكنّ التعليم يفقد معناه إذا تم التعامل معه باعتباره مجرد استثمار اقتصادي يترجم في سوق العمل إلى وظيفة ودخل ومكانة اجتماعية كما ترى الرأسمالية. يفقد التعليم هنا جوهره المتمثل في تحرير الإنسان من الجهل، وإعادة صياغة وعيه بالعالم.. ويمكن هنا أن نطرح سؤالا يوضح تداعيات الفكرة وهو: هل توفر الوظائف دون تعليم مثلا يعفي الناس من التعليم؟!! التعليم غاية في ذاته حتى لو كان من آثاره الحصول على وظيفة مرموقة، ومكانة اجتماعية، وهو شرط لتحقيق إنسانية الإنسان.
ولذلك يستحق أن ينظر إلى التذمر الحاصل في المجتمعات العالمية نتيجة التحديات التي تواجهها معادلة «التعليم من أجل سوق العمل» باعتباره علامة على تحول في وعي الأفراد تجاه التعليم ومعنى المستقبل، وإلا تآكلت أهمية التعليم في المجتمعات التي هي في أمس الحاجة اليوم إلى التعليم أكثر من أي وقت مضى. إن انهيار الثقة بالتعليم تعني بشكل من الأشكال انهيار الثقة في العقل وانتشار الشعبوية والخرافة والجهل، وأي مجتمع في أي مكان من هذا العالم يتخلى عن التعليم يتخلى في الواقع عن العقلانية التي تحميه من الانزلاق إلى العنف والفوضى.
وعلاج هذا الأمر يبدأ من بناء الوعي في المجتمعات بأهمية ومكانة التعليم ودوره في حياتنا، لكنه أيضا، يبدأ من علاج المشكلة التي أسست هذا الخطاب وهي مشكلة الباحثين عن عمل. الواضح أن منشأ هذا الخطاب ليس جدلا فلسفيا حول سؤال التعليم من أجل التعليم أم التعليم من أجل سوق العمل؟ وليس قناعة حقيقية بعدم جدوى التعليم، ولكنها نتيجة الإحباط واليأس من عدم الحصول على فرص عمل تحقق لهم ذواتهم واستقرارهم الذي وعدهم به التعليم نفسه.
الخبر المهم والمفرح أن سلطنة عُمان ما زالت ترى في التعليم المدرسي والجامعي والتعليم العالي والبحث العلمي مشروعا وطنيا نحو المستقبل، وترى في مشكلة الباحثين عن عمل قضية ذات أولوية على المستوى الوطني وهذا مهم في طريق حل هذه المشكلة الكبيرة.. وهو مهم أيضا في طريق ترسيخ الإيمان بالتعليم وأن بناء الدولة لا يمكن أن يكون بدونه، ولا بناء الحضارة الإنسانية، ولا حتى حل المشاكل الفردية الصغيرة. ومن الخير ألا نخسر هذا الإيمان أو نترك مساحة لأسئلة الشك فيه تتسلل إلى دواخلنا في لحظة يأس أو إحباط.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة «عُمان»