كثيرة هي الاحتمالات القائمة لما سيؤول إليه قطاع غزة على إثر الحرب الدائرة من طرف واحد، وهو الجيش الإسرائيلي، الذي ما يزال يمارس أبشع صور التدمير والتقتيل على مدار 24ساعة. والعالم كله يشاهد تلك المقتلة منذ عامين، ولا رادع أو مؤثر لكبح جماح التغول الإسرائيلي على غزة.
فُتحت جبهات أخرى للقتال؛ ليس لأن مسارات القتال كانت تقتضي ذلك، بل لأن الفرصة سانحة لإحداث منجزات تاريخية للكيان الصهيوني، فكانت الحرب مع إيران ولبنان واليمن ومناوشات في العراق، واختراق في سوريا، وإمعان في التشديد في الضفة الغربية، كل ذلك كانت من مدهشات الأحداث التي لم تخطر على بال.
وفي هذه الأيام يكثر الحديث عن احتلال غزة، بدأت عربات جدعون في المضي ببطء نحو أحياء الزيتون والصبرة شرقي مدينة غزة، والتي تعد مبتدأ عربات جدعون، لم يعجب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذا الاسم، فاختار «القبضة الحديدية»، ولعل في هذه التسمية تفسيرا واقعيا، حيث إن العربات تدمر ما تلقاه بالسحق تحت عجلاتها، إلا أن القبضة تعني إحكام السيطرة وخنق الطرف الآخر وتلقينه درسا موجعا حتى يستسلم.
ومن خلال هذه الحرب، استعاد الكيان الإسرائيلي في تعامله مع غزة مسمى «الاستيطان»، فمنذ انسحاب الجيش الإسرائيلي 2005 لم نعد نسمع عنه، لأنه انتفى في قطاع غزة، وهذه الاستعادة في كينونتها محور الاستيطان الأساسي للاستفادة من الثروات الطبيعية وتفعيل الوجود الإسرائيلي في غزة لمدة طويلة حتى تكون أبدية!
ولا عجب أن يقوم لهذا العمل تجهيز وترتيب جديدين من خلال الخلق الاستراتيجي لمكوناته، فإقامة المستوطنات يحتاج إلى بنى تحتية، وبنية بشرية جاهزة للنزول إلى الأرض والتفاعل مع فكرة الاستيطان، وتأسيس أرض تابعة للكيان الصهيوني.
يبدو الأمر عبثيا في ظل وجود مليوني فلسطيني يعيشون في غزة، وعبثيا أكثر في ظل عدم إحداث تواصل بين ما يسمى «الخط الأخضر» والمستوطنات المنوي إقامتها في قطاع غزة، وهذا الأمر يتطلب بالدرجة الأولى تفريغ شمال قطاع غزة المحاذي للخط الأخضر، ومن ثم محاولة قضم ما يمكن قضمه من المناطق الأخرى، وخاصة المناطق الساحلية والتي تعرف باسم «المواصي» الممتدة من منطقتي خانيونس ورفح، وبالتالي فإن عمل هذا التخطيط يتطلب إفراغا كاملا للسكان، بإبعادهم لمسافات شاسعة كما كان الحال قبل الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام2005.
ومن هذا التخطيط لعملية الاستيطان كان التفكير الجدي في إطلاق حملة التهجير لسكان قطاع غزة، ومنذ شهور بدأت عملية عربات جدعون السياسية في إيجاد أرضية ضمن محاولات لإقناع دول إفريقية فقيرة باستيعاب أعداد المهاجرين الفلسطينيين من قطاع غزة، والتي أطلق عليه «الهجرة الطوعية» وهذا المسمى لا يملك في حقيقته أي رصيد واقعي، فلن يختار الفلسطينيون في غزة الهجرة إلى أراض فقيرة لا تمتلك ما كانوا عليه من مستويات المعيشة المقبولة، إلا أن استخدام الإدارة الإسرائيلية لهذا المسمى إنما جاء ضمن التأثير النفسي وتصدير الأمر على أنه لمصلحة سكان قطاع غزة لمساعدتهم على الخروج من الجحيم!
وللوقوف على المحاولات التي ستقوم بها الإدارة الإسرائيلية في مساعيها لذلك، نبين أنها على الأقل ستستخدم الأدوات التي تجعل الحياة مستحيلة في قطاع غزة «بيئة طاردة»: تتمثل في قطع الماء عن الأماكن المنوي إخلاؤها، ومنع وصول المساعدات الإنسانية للمناطق المستهدفة. ومنع دخول شاحنات الأغذية والمستلزمات من خلال التجار، وتكثيف الضغط العسكري على المدنيين من خلال زيادة القصف الجوي وتفعيل الدخول البرية دون رادع وبدرجة ساحقة، والتوجيه الإعلامي بالتوجه إلى مناطق محددة يتوفر فيها كل سبل الحياة، ودون وجود عمليات عسكرية «مناطق آمنة»، والاستعانة بطرف داخلي يساهم في خلق البلبلة وبث الشائعات بالترغيب أو الترهيب بخلق صورة مرعبة للآتي.
هذه المحددات وغيرها تجعل الفلسطيني في غزة والذي عانى ما عانى من الويلات خلال عامين من القتل والدمار، مهيأ للخروج من هذا الجحيم.
إن الخطأ الاستراتيجي الذي قام به الطرف المفاوض التابع لحركة حماس؛ عدم وضوح الرؤية لهذا المخطط منذ البداية، وتشابك خطوط التطلعات مع الأرض، ما أوجد تدحرج السقف الإسرائيلي حتى وصل إلى النقطة الأعلى للطموح الوجودي الصهيوني في غزة، دون ضغط عليه، ودون تأثير بالقضية الأساسية التي من أجلها كانت الحرب «الأسرى».
كل هذا جعل المدة الزمنية الممتدة تعمل لصالح الإدارة الإسرائيلية، التي استخدمت أسلوب «المط» لتفريغ محتوى المفاوضات والضغط على الأرض، ما أحدث ضغطا على الفلسطينيين، وإدامة الدمار والتقتيل، وهذا ما لم يستوعبه الطرف المفاوض إلى الآن!
يمكن القول إن هذه النوافذ «الاحتلال-الاستيطان-التهجير» أصبحت ماثلة للعيان، فكيف سيتعامل أهل غزة مع هذا المخطط، وكيف سيتعامل الطرف المفاوض مع ذلك، وكيف سيكون دور الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني لذلك، وكيف سيكون حجم العمل الإسرائيلي لاستعجال فتح النوافذ طريقا للجحيم لسكان قطاع غزة!
قد نكون غير واقعيين إن قلنا إن على أهل غزة أن يصمدوا ويصابروا ويتشبثوا بأرضهم، وهذا كلام تنظيري عاطفي بالدرجة الأولى، لكن ماذا عن ما يحدث لهم وسط الجحيم؟!
أن تصمد يعني أن يكون لك قرار واحد وممثل واحد وجسم واحد، وهذا أمر مناف للواقع في ظل التجاذب السياسي الفصائلي، فطيلة أعوام طوال فعّل الانقلاب الذي أحدثته حركة حماس في الجسد الفلسطيني رافعة للاحتلال للانقضاض على القضية الفلسطينية وتفسيخ نسيجها، فكان ما كان حتى وصلنا إلى من نحن فيه.
أما الحل فلا يخرج عن محدد واحد: تغليب المصلحة الفلسطينية على المصلحة التنظيمية، واستشراف ما يُخطط للشعب الفلسطيني، والاستفادة من اعترافات دول كبرى ومتعددة بالدولة الفلسطينية، كل هذا يجعلنا نقف أمام العنوان الكبير «الشعب الفلسطيني أولا».
علينا أن ندرك أن أهل غزة بشر، لهم حق العيش بسلام وحرية، كباقي سكان العالم بعدما ذاقوا ما ذاقوا من الويلات، ويكفيهم تلك التجربة التي أفرزت 4 حروب طاحنة -لم تسمن ولم تغن من جوع- وتصعيدات آثمة، لم تمنحهم شيئا من أمنيات السراب سوى الدمار، آن لهم أن يُنتزع غطاء العصبية التنظيمية عن صدورهم، لينعموا بأمنية واحدة عاجلة وهي وقف الحرب على غزة.
طلعت قديح شاعر وناقد فلسطيني مقيم في غزة