قبل خمسين عامًا، وفي مثل هذه الأيام، كنت أسير بخجل، وربما بخوفٍ ووجل، نحو موقف سيارة المدرسة، وكانت أمِّي تقودني بيد، وبالأخرى تحمل عني حقيبة صغيرة، فيها دفتر وقلم، يومها كنت لا أعرف شيئًا عن هذه المدرسة التي أنا ذاهب إليها، بعد أن سجلني والدي تلميذًا في الصف الأول، ولا يزال يلوح في ذهني صورة لذلك الطفل الصغير الذي هو أنا، وهو يهرول في فناء المدرسة الواسع، ولعلني لأول مرة أقف مندهشًا أمام الفصول الدراسية المتراصة، في مدرسة مالك بن فهم بمنح، وقد شيِّدَتْ حديثًا بالإسمنت، فيما بيوتنا التي نعيش فيها كانت من الطين، داخل «حارتنا القديمة».
كنت في الصف الأول الابتدائي للعام الدراسي 1974م، ولم يبقَ من ذكرى ذلك العام إلا بعض ما حفظته وحفظه زملائي، من الدروس الأولى للمنهج الدراسي القطري «القِراءَة المُفيدَة»، كانت لوحة الغلاف تتضمن رسمة لنخلتين متجاورتين، وطفل يرتدي غترة وعقالا، وبجانبه طفلة تداعب أرنبًا صغيرًا، وبينهما كتاب مفتوح، كانت صفحاته الأولى أو بعدها بقليل، تحمل كلمات مفتاحية، نقَشْتُها في ذاكرتي خلال تلك الأيام وهي: «عَدَّ عَدَّاد .. شَدَّ شَدَّاد، عَدَّ سَامِي .. شَدَّ هانِي .. سَدِّي مَنِيع .. قِطِّي مُطِيع .. جَدُّ بادِي خَبَّاز .. عَمُّ رَاضِي غَوَّاص»، ولأول مرة أسمع بهذه الكلمات المفتاحية، لدرس تعليم اللغة العربية، في ذلك المنهج.
ولا أنسى درس: «شَرِبْتُ مَاءً بارِدًا .. رَاقَبْتُ غَزَالًا شارِدًا .. قَضَيْتُ يَوْمًا جَمِيلًا»، وكانت الجملة الأولى منه كفيلة أن تجعل طلاب الصف، يتلمَّضُون بألسنتهم طعم الماء البارد، حيث لم تدخل الكهرباء بعد إلى بيوتنا، ولم نذق طعم الماء المُبرَّد، ولم نرَ شكل الثلاجة، وربما لأول مرة نرى فيها صورة غزال شارد، وصبية صغار يقضون يومًا جميلًا.
ثم تطورت الكلمات، لتتسلل إلى ذاكرة محفوظاتي، وأتعلم درس «دولابُ سَمِير جَدِيد .. كِتابُ رَشِيد مُفيد .. نامَ عُثمَان في فِراشٍ نَظِيف»، ولأننا حينها لم نكن نعرف الدَّواليب، فكانت المفردة كفيلة أن نتخيل شكله، ونحلم به في حجرات بيوتنا، نضمُّ فيه ثيابنا وحقائبنا، ثم جاء درس فيه جمل رقيقة: «نُورُ فانوسِي شَدِيد .. بَازُ ضَاوِي عَنيد .. سَامِي خال وَليد .. مِيزانُ رَاجِي حَدِيد»، ولأول مرة نسمع بكلمة «فانُوس»، حتى أدركنا أنه ذاته الذي تشْعِله أمهاتنا بعد غروب الشمس، ونسميه: «سراج أبو فتيلة».

**media[3113713]**


ثم تأتي أنشودة «جَاءَتْ مَرْيَمُ مِنْ لبْنان»، في درس مستقل، وهي أحلى ما تعلمناه في ذلك العام، وقد حفظتها ويحفظها أغلب التلامذة، ولعل من يتابعني بقراءة هذه المقالة من ذلك الجيل، سيتذكر هذه الأنشودة، فقد أصبحت رَمزًا، للمنهج الذي تعلمناه، خلال تلك الأيام:
جَاءَتْ مَرْيَمُ مِنْ لبْنان
حَضَرَ شَوْقِي مِنْ حُورَان
بَحَثَ رَمْزي عَنْ عَوْجان
حَمَلَ وَجْدِي عَنْ عَدْنان.
أربع جمل لا غير، لم يكتبها مؤلفا الكتاب: «رفيق شاكر النتشة»، و«أحمد رجب عبدالمجيد» على أنها أنشودة، لكنها تشكَّلتْ في أذهاننا نشيدًا رقيق الكلمات، ربما لأول مرة نسمع عن مريم، التي جاءت من لبنان إلى عُمان، وصرنا نتخيلها بلباسها الملون الأنيق، وشعرها القصير، وهي تنزل من الطائرة، في صورة رافقت تلك الجُمَل الشعرية، فما أبلغ النصوص حين تُوجَزُ في كلمات، وما أبلغ الكلمات حين تُصبِح أجمل النصوص.
تلك كانت ذاكرتنا الشعرية الأولى، محفوظاتنا من الأناشيد المَدرسيَّة، تثري قاموسنا اللغوي بما لم نسمع به من كلمات، وبالتأكيد لا يزال بعض من ذلك الجيل، يتذكَّر نشيد «في البستان»:
شَجَرٌ أخْضَر وَرْدٌ أحْمَر،
زَهْرٌ أصْفَر في البُستان.
ذا عُصْفُورٌ يَجْمَعُ قَشَّه،
فَوْقَ الغُصْنِ يَبْنِي عُشَّه،
يَرْقُصُ طَرَبًا في البُسْتان.
وكذلك نشيد «ربنا»:
يا خَالِقَ الأشْجَار
يا رَازِقَ الأطيَار
يا باعِثَ الأنْوار
في رَوابينا
سَدِّدْ لنا خُطانا
لنَفْتَدِي حِمانا
واحْفظ بنا الأوْطان
مِنْ أعادينا.
بقيت تلك الكلمات محفورة في الذاكرة، ولم أكن أتصوَّر أن ألتقي بها من جديد بعد سنوات من الغياب، حتى أقيم في مركز نزوى الثقافي معرض للمقتنيات الخاصة، لبعض المهتمين بجمع المخطوطات والوثائق والكتب القديمة، وفيه التقيت بخزانة جابر الرَّحبي، كبادرة تطوعية خاصة، عارضًا مجموعة مما جمعه من مطبوعات ومناهج مدرسية، ومجلات وجرائد قديمة، وكانت بهجتي كبيرة، حين رأيت أغلب الكتب الدراسية التي تعلمناها من المنهج القطري، في بواكير سنوات السبعينيات، معروضة في منضدة، يجاورها نماذج من كتب المنهج العُماني.
رحت أقلِّب تلك المعروضات، وأعود بذاكرتي إلى الوراء، فها هو منهج «القِراءة المُفيدة»، الذي رسَمْتُ صورة غلافه في ذاكرتي، وها هي بعض من محفوظاتي القديمة من النصوص، أعود إلى قراءِتها وأقرأ تلك الأناشيد، وأرى مريم التي جاءت من لبنان، والماء البارد الذي تلمَّضناه، ينساب في الصفحات من بين الكلمات، وكأني أقرأها من جديد، بشغف مَنْ تعود له ذاكرته، وها هو درس «حقلنا»، يرتسم من جديد أمامي، بعد أن ودعته منذ سنين بعيدة:
في حَقلِنا أزْهار
فِي حَقلِنا عُيُون
في أرْضِنا أشْجَار
مُلتَفَّة الغُصُون
في حَقلِنا أطْيَار
تطِيرُ في فَرَح
وإخوَتي الأطفال
يَجْرُونَ في مَرَح.
كبرنا وغابت تلك الدروس الرشيقة، التي تعلمناها من المنهج القطري، ولم يبق منها إلا القليل، أشبه بقطرات زيت، بالكاد تشعل ذبالة الذكرى، وبعد أن تقدمنا في السنوات الدراسية، حفظنا قصائد أخرى، لا تزال محفورة في الوجدان، منها قصيدة المتنبي الشهيرة: «وزَائِرَتِي كأنَّ بها حَيَاءً - فليْسَ تزُورُ إلا في الظَّلامِ».
كبرنا وتقدمنا في التعليم، وحفظنا الكثير من الشعر، حفظنا قصائد في حب فلسطين:
فِلسْطينُ دَارِي وَدَرْبُ انتِصَارِي
تَظَلُّ بِلادِي هَوًى فِي فُؤادِي
وَلحْنًا أبِيًا على شَفَتَيَّا
وُجُوهٌ غَريبَة بأرْضِي السَّليْبَة
تَبيعُ ثِمَارِي وَتَحْتلُّ دَارِي
وَأعْرِفُ دَرْبِي وَيَرْجِعُ شَعْبِي
إلى بَيْتِ جَدِّي إلى دِفءِ مَهْدِي.
وحفظنا قصيدة «أخِي جَاوَزَ الظَّالِمُونَ المَدَى - فحَقَّ الجِهَادُ وَحَقَّ الفِدَا» لعلي محمود طه، وقصيدة «سَأحْمِلُ رُوحِي على رَاحَتِي - وأُلقِي بها في مَهَاوِي الرَّدى» لعبدالرحيم محمود، وقصائد أخرى من شعر المهجر اللبناني، كقصيدة إيليا أبي ماضي: «نَسِيَ الطِّينُ سَاعَةً أنَّهُ طِينُ - حَقِيرٌ فَصَالَ تِيْهًا وَعَرْبَد»، وقصيدة «سَلمَى بمِاذا تَحلُمِين»، وقصائد أخرى متنوعة، بعضها من الشعر العُماني، الذي بدأ يدخل المنهج الدراسي، كقصيدة الشيخ عبدالله الخليلي في الحث على التعليم.
وحفظنا بعضًا من قصائد أحمد شوقي: «وُلِدَ الهُدَى فالكائِناتُ ضِيَاءُ - وَفَمُ الزَّمانِ تَبَسُّمٌ وَثَنَاءُ»، وبعضا من أبيات «نَهْج البُرْدَة» للبوصيري، وكنت أحفظ أبياتها الأولى قبل أن أتعلمها في المنهج، فقد قرأتها في كتاب «مولد شرف الأنام» للبرزنجي، اشتراه لي والدي من سوق نزوى، حين كنت في الصف السادس الابتدائي عام 1980م، ومنه قرأت قصيدة «البُرْدَة»، أو «البَريئة»، كما في تسمية أخرى: «أمِنْ تَذَكُّرِ جِيْرانٍ بذِي سَلَمِ - مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقلَةٍ بدَمِ».
وتزحف السنوات الدراسية في سيرها المُعتاد، ونتقدم حثيثًا في دراسة المنهج العماني الجديد، الذي أثرانا بالكثير من النصوص النثرية والقصائد الشعرية، وبالتأكيد فإن حفظ القصائد والنصوص الشعرية الأولى من المنهج الدراسي، يُغذِّي الذاكرة بمفردات جديدة، لم نكن على علم بها، تمتزج بوجداننا لتصبح جزءًا من تكويننا الثقافي، وكلما حفظ الطالب قصيدة، بقيت محفورة في وجدانه، وتصبح كلماتها أشبه بالزهور في الحقل الأخضر.
وإذا كنت قبل خمسين عامًا، وفي مثل هذا اليوم، أسير إلى المدرسة، حاملًا معي حقيبة صغيرة، فإن الذكرى تتجدد كل عام، واليوم بداية العام الدراسي الجديد لأبنائنا الطلاب في عُمان، سيحمل لهم درُوسًا منتقاة من لباب الإبداعات الأدبية، وفي هذا العام، سيخطو أبناء عمان إلى مدارس حديثة الطراز، ومن بينهم أصغر أبنائي، وسيدخل الصف الأول الابتدائي، لكن لن تكون «جَاءَتْ مَرْيَمُ مِنْ لبنان» في استقباله، بثوبها الأنيق وشعرها القصير، إنما أمهات من المعلمات العمانيات البارعات، وبدروس جديدة ومفيدة، ونصوص نثرية وشعرية، أعذب من الماء، تتجدد بها الحياة، وتصبح أكثر غَضَارةً ونَضَارَة

**media[3113714]**

* محمد الحضرمي كاتب عماني