انتفضت مجموعةٌ من الأسباب والمسوقات التي قادتني إلى كتابة هذا الموضوع؛ فبداية مع ما دار -مؤخرا- في وسائل التواصل الاجتماعي عن قضية المؤشرات العالمية وترتيب الدول التي برز أحدها الأسبوع المنصرم؛ فأحدث جدلا في وسائل التواصل الاجتماعي لا طائل في الخوض فيه، ولكننا سنقترب من فكرته ومبررات التحفّظ عليه وعلى أمثاله عن طريق مؤشر يضارعه. كذلك في غضون مطالعتي الأخيرة لسيرة شيخ المترجمين العُمانيين محمد أمين عبدالله البستكي كما سبكها الدكتور محمد بن حمد العريمي، ورغم قراءتي لعدد من كتب التاريخ المترجمة بواسطة محمد أمين منذ زمن طويل، ولكن اقترابي من محمد أمين واكتشاف سيرته أعادني إلى بحر أعماله خصوصا الترجمية لكتب تتعلق بتاريخ عُمان والجزيرة العربية، وهنا لست بصدد إطالة الحديث عن سيرة رجل غني عن التعريف، ولكن لفت انتباهي كتاب «البلاد السعيدة» -الذي لم أقرأه من قبل- من تأليف البريطاني «برترام توماس» وترجمه للعربية محمد أمين؛ لتتبلور فكرة المجتمعات السعيدة وتكتمل صورتها -رغم عدم الارتباط المباشر مع فكرة الكتاب إلا من جهة عنوانه الساحر، واستنهض أفكارا تخص معنى السعادة المنشودة وأساليبنا النسبية -بما فيها المؤشرات العالمية- في قياسها، ولعلّ أهمية هذا الموضوع تتصل بشأنين؛ فأولهما، آلية قياسنا للسعادة وما يتفرّع منها، والثاني، تأويلنا للسعادة في عصر رقمي نراه يقود الإنسانَ إلى هُوّة نفسية سحيقة أركست نشاطه العقلي؛ فكثرت معدلات القلق والاكتئاب، وفُقِدَ شغفُ الإنتاج البشري وإبداعه، وفي صعيد آخر، نجد تهميشا وجوديا للإنسان في محيط بيئته الملوثّة بضوضاء التقنية؛ فيبحث عن السعادة في صيغتها الافتراضية عبر المنصات الرقمية أو بصيغتها التراتبية العددية كما تقررها مؤشرات مراكز استطلاع السعادة وجودة الحياة وقياساتها؛ فتسعده -مرات- بما تجود به من تصنيفات عالية، وتتعسه -أحايين أخرى- بهبوط المؤشر. 

رغم ما يمكن أن تؤكده مشاهدات الحياة عن تراجع معدلات السعادة في المجتمعات الإنسانية؛ فإن مؤشرات قياس السعادة العالمية المتعلقة بسعادة المجتمعات والدول تواصل استطلاعاتها لقياس سعادة المجتمعات، ورغم ما يمكن لهذه المؤشرات أن تحدده في صعيد مستويات السعادة للمجتمعات وفق عدد من المعايير، فإنها تظل نسبيةً من حيثُ واقعيتها المنعكسة على المستوى الجمعي والفردي؛ فنجد -مثلا- تقرير السعادة العالمي -منشور سنوي عالمي يصدر بالاشتراك بين مركز أبحاث معني بالرفاهية وقياسها في جامعة أكسفورد وشركة Gallup لاستطلاعات الرأي- يعتمد معاييرَ في قياس مستويات السعادة للدول مثل: الدعم الاجتماعي، متوسط العمر الصحي، حرية اتخاذ قرارات الحياة، الكرم، وانعدام الفساد. تكثر مثل هذه المؤشرات وتتكرر؛ فلا يمكن فحصها للتحقق من دقتها على غرار مؤشرات عالمية أخرى مثل تلك التي تخص مؤسسات التعليم والصحة، والتي تكون أكثر موضوعية وتخصيصا رغم ما يعتريها من عيوب، ولهذا لست مهتما في استعراض هذه المستويات -التي تتجدد بشكل سنوي- وقائمة الدول ومراتبها في السعادة؛ فنحن مع قياسات نسبية لا يمكن التعويل عليها خصوصا أنها تتعلق بقيمة رئيسة في حياة كل كائن -بما فيها الإنسان-، ولا يمكن لي أن أقرأ السعادة وأقرّها بمقاييسها الجمعية المُفرغَة من تجلياتها الفردية ودقائق تفاصيلها. 

بجانب ما لديّ من تحفّظ لمفاهيم السعادة وما يتصل بها وقياساتها العالمية؛ فإنها مقبولة عند كثير من الأفراد والمجموعات؛ فتستمر في الظهور، ورغم انتفاء موضوعيتها لنسبية السعادة وتغاير مواطنها ومفاهيمها؛ فإنها يمكن أن تعكس بعضا من أوجه السعادة في المجتمعات؛ فتتمثّل السعادة عند بعض المجتمعات في وجود الوفرة المالية وانعكاساتها في الرفاهية والقدرة على الاستهلاك باعتبارها أولوية مقدّمة على بقية مولدات السعادة، وتجدها عند مجتمعات أخرى متمثلة في تحقق الحرية بكل حدودها الفردية التي لا تضر بشكل مباشر حقوق الآخرين وعناصر حياتهم، وعند مجتمع آخر متمثلةً في القوة المعرفية والصناعية والعسكرية والسيادة الوطنية، ونجد جميع هذه الأوجه المعتبرة للسعادة متغيرات تعكس التفسير النسبي الجمعي للسعادة الخاص بكل مجتمع. 

لكننا نحتاج أن نقترب من ماهية السعادة بصبغتها الواقعية الحالية التي تتغاير بين لحظة وأخرى عاكسةً المتغيرات الرقمية وتأثيراتها المصحوبة؛ فنراها تجسّد مشاعر فردية يمكن أن تعكس مدى الرضا العام للمجتمع بمجموع أفراده عبر تحقيق عدد من العناصر الأساسية في الحياة مثل الأمان والمال والكرامة والمساواة والحريّة، ولعلّنا مع مثال نستوحيه من مؤسسة تؤمن بأن نجاحها مرتبط بقوة إنتاجية العاملين فيها وإبداعهم؛ فتؤمن أن المحفزات مثل الرواتب المجزية والحوافز المالية الموازية للإنجاز والإبداع وتحقق العدالة والمساواة والأمان الوظيفي العالي لها مفعولها السحري في تحقيق النجاح والإنتاجية العالية للمؤسسة، وهذا ما يمكن أن نعكسه في أيّ مجتمع إنساني سواء تمثّل في دولة أو مصنع أو مؤسسة، ولكن بوجود الانفتاح الرقمي وأدواته مثل وسائل التواصل الاجتماعي؛ فنحن مع أزمة متغيرات تفرض واقعا جديدا لمعنى السعادة؛ فتجدد مقاييس السعادة ومستلزمات تحققها بما يفرضه العالم الافتراضي وبروتوكولات المقارنة التي افترضت «الكمال» شرطا للسعادة يفسّر لنا سبب ارتفاع معدلات الاكتئاب والانتحار وعدم الرضا في دول ومدن متقدّمة ومتحضّرة صناعيا واقتصاديا وتقنيا، وفي هذا الخصوص، أذكر فلسفة يابانية قرأت كتابا عنها -قبل فترة من الزمن- تُعرف بـ«وابي سابي» التي يمكن أن نفهمها بأنها ثقافة يابانية قديمة تُعنى بقيم مثل الجمال والبساطة وقبول مبدأ عدم الكمال في الحياة وفك الارتباط بمشابك الحياة ومنغصاتها. 

بعيدا عن السرد النظري والطرح الثقافي، نحتاج إلى تطبيق جاد للسعادة ومعززاتها دون التنازل عن مخرجات الحياة الحديثة وشروطها النافعة، ولكن بقدر ما يمكن أن نسعى لتحقيق التوازن النفسي الذي لا أظن مؤشرات استطلاع السعادة تجد سبيلا إلى فحصه واكتشافه بشكل دقيقٍ مُرضٍِ؛ فنحتاج إلى ممارسة التخلي أو التخفيف من بعض صوارف العصر ومرهقاتها الرقمية لصون منطقتنا النفسية وصقلها؛ فلا نسعى إلى اكتشاف أنفسنا بواسطة بيئات افتراضية مؤججة للصراعات الفكرية والنفسية الضارة، ونحتاج أن نعيد للإنسان مركزيته في الإبداع بدل الاستمرار في التماهي مع الهيمنة الرقمية، ونحتاج أن نرفع وعينا بأهمية الصحة النفسية وتجديد عواملها وفقَ ما يستجد في حياتنا والدفع بتبنّي قيم السعادة بأنواعها، ولا نقصد بهذه التوصيات أن نعلن قطيعتنا بكل ما يصل بالتقنية والأدوات الرقمية؛ فنحن بحاجة إلى تيسير الحياة وفك تعقيداتها عن طريق أدواتنا المتقدمة الناتجة عن تطوّر معارفنا، ونسعى إلى إبقاء مخصصات الإنسان وقيمه الضامنة لتحقق المجتمع السعيد عبر نشر الوعي النفسي الذي لا يمكن أن نقيسه بمؤشرات السعادة المزعومة. 

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني