بدون موعد مسبق وجدت نفسي، خلال زيارتي للعاصمة الهولندية أمستردام، حاضرا أشهر الفعاليات البحرية في العالم، وهي مهرجان (سيل أمستردام) الذي يُقام مرة واحدة كلّ خمس سنوات، فإذا علمنا أنّ الدورة السابقة التي كان من المفروض إقامتها عام 2020 م ألغيت كونها توافقت مع الجائحة، فالمهرجان لم يُقم منذ عشر سنوات، لذا كان الزخم كبيرا على العاصمة التي تحوّلت، عبر تاريخها الطويل، من قرية ساحلية يقتات سكانها على صيد الأسماك، كما كانت في العصور الوسطى إلى مدينة عالمية كبرى، وعاصمة تتباهى باحتفائها بالفن، والشعر، والجمال، وما القصائد التي كُتبت على الجدران باللغة الهولندية، أو بلغاتها الأصليّة، إلّا دليل على مظهر من مظاهر هذا الاحتفال الذي كان الهدف منه هو جعل الشعر جزءا عضويّا من حياة الناس وحركة المجتمع. 

وابتداء من الأربعاء الموافق 20 وحتى الأحد 24 أغسطس 2025م، عاشت أمستردام، مدينة المباني التراثيّة، والمتاحف، والقنوات المائيّة والجسور التي تمتدّ فوق هذه القنوات، ويبلغ عددها (١٨٠٠) جسر، خمسة أيام لا تنسى، حيث استمتع زوّار العاصمة الهولندية بمشاهدة السفن الشراعية القديمة التي كانت تسير على الماء جنبا إلى جنب مع الزوارق الحديثة، والقوارب في استعراض بحري يروي حكايات تاريخ المدينة العريق ضمن برنامج يتضمّن العديد من الفعاليات الممتعة، حيث الأغاني الشعبيّة، والموسيقى والفنون التقليدية، والديكورات الفخمة والألعاب النارية والمطاعم التي تقدّم الأكلات الشعبية المتنوّعة في مواكب تتّجه في طريقها نحو مركز المدينة في مهرجان ثقافي بديع، هذا المهرجان تتنوّع فيه الأنشطة، والفقرات التي تشيع البهجة في نفوس الصغار، والكبار، على حدّ سواء، والعوائل، فما أجمله من منظر عندما تبحر أكثر من 800 سفينة مشاركة في المهرجان!، هذه السفن المختلفة الحجوم، والأشكال، والأنواع تتهادى فوق مياه قناة بحر الشمال في العاصمة التي امتلأت بالسيّاح الذين قدموا من مختلف أنحاء العالم. 

قال لي الصديق الشاعر علي شياع «أنت محظوظ، لأن زيارتك توافقت مع هذا المهرجان بنسخته العاشرة التي تتميز بميزات عديدة أبرزها أن هذه النسخة تتزامن مع الذكرى السنوية الـ750 لتأسيس أمستردام، وهذا جعل لها طابعا خاصا، كما أنّ الدورة الحالية تقام بعد خمسين سنة من الانطلاقة الأولى للمهرجان في عام 1975م». 

انضممنا إلى السيّاح الذين حملوا كاميراتهم، والتقطوا صورا وسجّلوا مقاطع فيديو بهواتفهم المحمولة للسفن القديمة، التي احتشدتْ لترتفع الأشرعة، فتدفع السفينة للأمام بقوّة الريح، هذه الأشرعة رافقت الإنسان منذ آلاف السنين، إذ يذكر المؤرّخون أنّها من اختراع اﻟﻤﺼﺮﻳين القدماء، وذلك بحدود ٣٠٠٠ ق. م، وﺗﻌﻠّﻤﻮا ﺑﻨﺎء اﻟﺴﻔﻦ اﻟﺨﺸﺒﻴﺔ، ويُحسب للبحّارة العرب أنّهم ﻃﻮّروا اﻟﺴﻔﻦ اﻟﺸﺮاﻋﻴﺔ في ٨٥٠ م وأضافوا لها الكثير بفضل ابتكاراتهم، ومن أبرز هذه الابتكارات اﻹﺳﻄﺮﻻب واﻟﺒﻮﺻﻠﺔ، فتمكّنوا ﻣﻦ اﻹﺑﺤﺎر إﻟﻰ اﻟﻬﻨﺪ وﻣﻠﻘﺎ واﻟﺼﻴﻦ، بينما لم تدخل أوروبا على خط صناعة السفن الشراعية إلّا في عام ١٢٠٠م عندما صنع بنّاؤو السفن في شمال أوروبا الدفّة الخلفيّة للسفينة، تذكّرت زيارتنا للمتحف البحري الوطني الفرنسي، بباريس، خلال إقامة معرض «عمان والبحر» الذي أقيم خلال الفترة من 16 أكتوبر 2013م إلى 5 يناير 2014م، ورأينا بعض الأدوات التي كانت تُستخدم خلال الرحلات البحرية، والخرائط القديمة، والمخطوطات، ومجسّمات السفن العُمانية القديمة، وعرفنا كيف لعبت تلك السفن دورا في التواصل الحضاري، فكانت رسل محبّة وتبادل حضاري وسلام بين الشرق والغرب. 

حين ارتفعت أصوات الموسيقى، عند اقتراب المواكب، توقّفت عن السرحان، وعدت أتابع المناظر البديعة التي تمرّ من أمامي، امتثلت لنصيحة جان جينيه بترجمة الصديق الشاعر إسكندر حبش«إن توجّب الأمر، سرْ على حافّة المحيطات، غطّ نفسك بالضوء». كانت النسائم تهبّ على الأشرعة، ذات الألوان المبهجة، فتحرّكها حيث سارت، فتذكّرت قصيدة الجواهري (دجلة الخير) وتحديدا قوله: 

وانتَ يا قاربا تلْوي الريــــاحُ به 

لَيَّ النســــــــائمِ أطرافَ الأفانين 

ودِدتُ ذاك الشِراعَ الـرخص لو كفني 

يُحاكُ منه غداةَ البين يطــــــويني 

ولم نكتفِ بمتعة المشاهدة، فقد أتيحت لنا فرصة صعود متن واحد من هذه السفن الصغيرة التي قطعت نهر (أمستل) الذي تقع عليه (أمستردام) لنستمتع برحلة شحذت مخيلتنا وجعلتنا نستعيد حكايات البحر القديمة التي ترويها ألسنة الأشرعة في العاصمة الهولنديّة (أمستردام).