ترجمة: أحمد شافعي
يجدر بالأوروبيين أن يستمتعوا ما بقيت أسباب المتعة سانحة لهم. ففي يوم الاثنين الماضي، أدى غزو 7 قادة أوروبيين للبيت الأبيض ـ ليكونوا عمليًا حرسًا لفلودومير زيلينسكي - إلى توافق نادر في المواقف الدبلوماسية مع أمريكا في ظل قيادة ترامب، بل وأدى ذلك إلى إقناعه بالحديث إيجابيا عن نوع ما من التدخل الأمريكي غير المحدد بعد لتوفير ضمانات أمنية لأوكرانيا بعد وقف إطلاق النار.
لا أحد يعرف إلى متى سيظل ترامب على هذا الموقف، ولا ترامب نفسه يعرف. ولكن ما ينبغي أن يثير قلق الجميع الآن هو أن شهر سبتمبر سوف يشهد رؤية ترامب لأغلب هؤلاء القادة الأوروبيين وهم يتخذون مواقف مناقضة تماما في صراع آخر، أعني صراع غزة، بما سوف يتسبب في شقاق قد يزعزع استقرار اتفاقيات أخرى بشأن أوكرانيا أو التبادل التجاري.
تشترك حربا غزة وأوكرانيا في سمة أليمة تتمثل في كونهما حربين رتبهما قائدان متهمان من المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب، أعني بنيامين نتنياهو وفلاديمير بوتين، لكنهما مختلفتان أيضا في جانب مهم. ففي أوكرانيا، يشترك الأوروبيون والأمريكيون بعمل وثيق فلا يمكنهم تجاهل بعضهم بعضا راق لهم ذلك أم لم يرق، أما في غزة فالأوروبيون محض متابعين يستطيع ترامب أن يتجاهلهم إذا شاء أو لا يحفل بما يقولون.
في الشهر الماضي، حينما أعلن إيمانويل ماكرون عزمه الاعتراف بفلسطين لم يحفل ترامب بذلك. وتجاهل جوهريًا إعلان بريطانيا بعد ذلك أنها ستحذو حذو فرنسا، وإعلان ألمانيا عن إيقاف مبيعات الأسلحة لإسرائيل، فضلًا عن ذلك، أكد ترامب الأسبوع الماضي اختلافه في الرأي مع الأوروبيين بوصفه نتنياهو (ونفسه بطبيعة الحال) ببطل الحرب لا بالمجرم، برغم أن بسطه السجادة الحمراء لبوتين خلال زيارته لألاسكا يعني مغفرته للقائد الروسي أيضا.
الاختلافات، وبخاصة مع ترامب، أمر طبيعي، حتى لو حاول القادة الأوروبيون إخفاءها بالتودد والمجاملات. ومشكلة الاختلاف على إسرائيل وفلسطين هي أنه في الشهر التالي سوف يكون شديد العلنية، وعلى الأراضي الأمريكية، أي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك التي يقام اجتماعها رسميا في التاسع من سبتمبر. وقد قال كل من الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إن اعتراف بلديهما بفلسطين سوف يجري في اجتماع الجمعية العامة، ما لم تتفق إسرائيل وحماس بحلول ذلك الوقت على وقف إطلاق النار وما لم تظهر إسرائيل التزامها بإقامة دولة فلسطينية.
من الممكن أن يتحقق الشرط الأول من هذين الشرطين، لكن ما من فرصة مطلقًا لأن تلزم الحكومة الإسرائيلية نفسها بحل الدولتين. فمحادثات وقف إطلاق النار بوساطة من مصر وقطر قد اقتربت حسبما يقال منذ أسابيع من التوصل إلى اتفاق، برغم أن الكثير في نهاية المطاف قد يعتمد على مدى التزام إسرائيل بشرطها المسبق بأن توافق حماس على التخلي عن سلاحها. وحتى في ظل استمرار هذه المحادثات، يوسع الجيش الإسرائيلي سيطرته على المزيد من أراضي غزة بما فيها منطقة مدينة غزة ذات الكثافة السكانية المرتفعة مثلما حدث في الأسبوع الماضي.
تذهب الرؤية الأكثر تفاؤلًا لمفاوضات وقف إطلاق النار إلى أن قيادة حماس (واسمها اختصار لتسميتها الكاملة باللغة العربية، أي: حركة المقاومة الإسلامية) قد تكون مستعدة لاتباع مثال الجيش الجمهوري الأيرلندي في تسعينيات القرن الماضي إذ اختار أن يتخلى عن القتال العسكري مع البريطانيين في أيرلندا الشمالية ليصبح حزبا سياسيا بدلا من ذلك. وهذا ما تطالب به إسرائيل حماس، وسوف تتمثل جائزة الموافقة في فرصة للمنافسة في انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني التي قد تقام قبل نهاية العام الحالي.
غير أن الحالة الأيرلندية ليست السابقة المثلى: ففي عام 1998 وافق الجيش الجمهوري الأيرلندي على «تفكيك» أسلحته في سياق اتفاقية سلام، لكنه وافق على ذلك فقط بعد التنفيذ الكامل لبقية أجزاء الاتفاقية. وفي النهاية، استغرق الجيش الجمهوري الأيرلندي أكثر من سبع سنوات لتدمير أسلحته أو التخلي عنها. ولا يعتقد أحد في أيرلندا الشمالية أن الجيش الجمهوري الأيرلندي أو معارضيه البروتستنت قد تخلوا حقا عن أسلحتهما.
لذلك تصر إسرائيل على أن تضع حماس سلاحها قبل وقف إطلاق النار لا بعده. ولكن مثلما كان الحال في أيرلندا الشمالية، لن تتوافر أي وسيلة يمكن الاعتماد عليها لإثبات التخلي عن جميع الأسلحة. ويصدق هذا حتى في حال تحول حماس إلى حزب سياسي بدلا من ميليشيا، إذ يسهل دائما إنشاء ميليشيا جديدة موازية باسم مختلف.
السؤال الحقيقي، المكافئ للسؤال الحقيقي فيما يتعلق بأوكرانيا برغم الاختلاف البين في السياق، يتعلق بمدى رغبة الحكومة الإسرائيلية في مواصلة حربها في غزة. فالدلائل تشير -كما هو حال بوتين في أوكرانيا- إلى أن نتنياهو لا يزال شديد الاشتهاء للحرب. وباستهدافه كلًا من قيام حماس بإطلاق سراح بقية الرهائن الخمسين (الذين يعتقد أن عشرين منهم لا يزالون على قيد الحياة) وكذلك تدمير حماس بوصفها ميليشيا مقاتلة، فإن نتنياهو يضمن جوهريًا أن هدفيه هذين لا يمكن تحقيقهما إلى الأبد.
في الأسبوع الماضي، أكدت الحكومة الإسرائيلية ازدراءها لفكرة حل الدولتين بإقرارها مشروعًا استيطانيًا جديدًا في الضفة الغربية من شأنه أن يقسم القطاع إلى اثنين. وقد أدان وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي القرار وعده انتهاكًا للقانون الدولي سوف «يقوض تماما حل الدولتين». وانضمت ألمانيا إلى الإدانة.
الأمل الحقيقي الوحيد في تغيير حسابات نتنياهو بشأن حرب غزة وبشأن حل الدولتين هو أن تنضم الحكومة الأمريكية إلى هذه الإدانة. وما من بادرة مطلقا في الوقت الراهن على أن واشنطن سوف تفعل ذلك. وما لوفد من القادة الأوروبيين إلى البيت الأبيض أن يحظى بأي فرصة لتغيير رأي ترامب في هذا الشأن، على عكس ما حدث مع أوكرانيا. في حالة فلسطين، لا يمكن إلا لوفد من القادة العرب، وبقيادة المملكة العربية السعودية، أن يلفت انتباهه إلى هذه القضية.
وهكذا تكون الساحة مهيأة لانعقاد جمعية عامة للأمم المتحدة الشهر المقبل صاخبة مثيرة للجدل على نحو غير معتاد. فسوف يكون لزامًا على فرنسا وبريطانيا ودول أخرى أن تثير ضجة كبيرة لتجعل لاعترافاتها بفلسطين تأثيرا على المملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى. غير أن النهج العربي أشد تحفظا بصفة عامة. والواقع أنه ما لم تحشد الدول العربية شجاعتها للضغط على ترامب، فإن حرب غزة ستدوم، وفكرة قيام دولة فلسطينية فاعلة ذات سيادة سوف يواريها التراب إلى الأبد.
بيل إيموت رئيس تحرير مجلة الإيكونوميست السابق، ويشغل حاليا منصب رئيس جمعية اليابان في المملكة المتحدة، والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ومعهد التجارة الدولية.
عن آسيا تايمز