«جولة ترامب الرابحة» في مفاوضاته التجارية، كما يسميها جَيمِسون جرير الممثل التجاري للولايات المتحدة، هدفها التأكيد مجددًا على الأولوية الأمريكية. بل أشار بيتر نافارو مستشار ترامب إلى أن الرئيس الأمريكي يستحق جائزة نوبل للاقتصاد لإظهاره كيف أن أكبر سوق في العالم تستطيع إخضاع التجارة الدولية لإرادتها. 

يراهن البيت الأبيض على أن تفكيك النظام التجاري القديم والذي كانت تحرسه منظمة التجارة العالمية ولو بشكل غير منتظم سيأتي بنظام جديد تكون أمريكا في مركزه. 

لكن ترامب الذي يتصرّف وكأن الولايات المتحدة لا تزال محور التجارة الدولية ربما يسرِّع انتقال هذا المحور إلى مكان آخر. فأكبر سوق للعالم (الولايات المتحدة) صار وضعها اليوم أقل مركزية في التجارة الدولية مقارنة بما كانت عليه في السابق. ففي بداية هذا القرن كانت أمريكا تستقبل خُمْس الواردات العالمية. لكن هذه النسبة تراجعت الآن إلى الثّمْن فقط. 

وفيما تعقد البلدان صفقات جمركية مع ترامب لتأمين دخول صادراتها إلى السوق الأمريكية تخطط أيضا في الوقت نفسه للبدائل. وكما ذكر مسؤول كوري جنوبي «الخطوة الأولى هي تقديم تنازلات لأمريكا. والخطوة الثانية هي البحث عن مكان آخر». حول العالم تتحوط الحكومات من نهاية النظام الاقتصادي القديم بطرائق مختلفة. هنالك حكومات تعزز الشركات المحلية بالدعم المالي والحمائية. وتبحث حكومات أخرى عن أسواق جديدة. وأكثرها جرأة تصوغ تحالفات لموازنة نفوذ أمريكا. والاختيار بالنسبة لحكومات عديدة ليس بين الإذعان لواشنطن أو لحالة الطبيعة التي افترضها توماس هوبز (حالة اللا قانون وصراع الكل ضد الكل- المترجم) ولكن بين تدابير إصلاحية في الأجل القصير والبدائل في الأجل الطويل. 

نظرًا إلى ولع ترامب بالرسوم الجمركية ومَيل الضرائب (الرسوم) إلى البقاء حتى بعد رحيل واضعيها عن سدة الحكم ينطوي دعم الحكومات للصناعات المتضررة من الحرب التجارية على مخاطر إهدار المال وتشويه أداء الأسواق. لقد كشفت البرازيل عن حزمة ائتمانية بقيمة 6 بلايين دولار تشمل إعفاءات ضريبية وضمانات شراء حكومية. ومع الإجهاد الذي تعاني منه المالية العامة أثارت هذه الخطة مخاوف المستثمرين. كما اتخذت كندا مقاربة مماثلة إذ تعهدت بدعم صناعة الأخشاب بما يقرب من بليون دولار. واقترحت وزارة التجارة في جنوب إفريقيا سياسات تسمح للمصدرين بتنسيق تكاليف الشحن (الاتفاق على أسعار الشحن) والاشتراك في إنشاء بنية تحتية للتصدير حتى إذا كان ذلك يعني انتهاك قوانين منع الاحتكار. 

تلجأ حكومات أخرى إلى أدوات أكثر خشونة. فكندا واليابان تفرضان رسوما جديدة على الواردات المعدنية. والهند تؤكد على حملتها «صنع في الهند.» ففي يوم 15 أغسطس امتدح رئيس الوزراء ناريندرا مودي الاعتماد على الذات في كل شيء من الطاقة وإلى الطائرات المقاتلة. وقال «إذا ظللنا نجاهر (بتفضيل المنتج) المحلي سنحقق الازدهار».  وعلى الرغم من عدم كثرة الإجراءات المماثلة في مواجهة رسوم ترامب حتى الآن إلا أن مخاطر تأسِّي البلدان الأخرى بالحمائية الأمريكية تتزايد. وهذا يرفع التكاليف لكل أحد. 

البحث عن أسواق جديدة يَعِد بالكثير. فمن آسيا إلى إفريقيا تدفع الحكومات الشركات للتوسع في الخارج بتمويل وتحفيز صادراتها. فسنغافورة وكوريا الجنوبية مثلًا تموِّلان الشركات الصغيرة للبحث عن فرص في جنوب آسيا والشرق الأوسط والمكسيك. وشرع بعضها في تغيير وجهة التجارة (بعيدا عن الولايات المتحدة). فمزارعو جنوب إفريقيا يرسلون إنتاجهم إلى الصين ويطلبون من الاتحاد الأوروبي التخفيف من ضوابط سلامة الحمضيات. وتتجه شركات الملابس في ليسوتو (التي كانت ترتبط في وقت ما بالإنتاج لشركتي جاب وليفايز الأمريكيتين) إلى مشترين إقليميين وتستكشف الطلب في آسيا. 

إلى ذلك شركات البن البرازيلي التي فُرِضت عليها رسوم أمريكية بنسبة 50% تزيد صادراتها إلى شمال إفريقيا والشرق الأوسط حيث ارتفع حجم المبيعات هناك بنسبة 60% في العام الماضي. لكن حتى مع هذا التنويع سيحتاج إحلال أمريكا إلى وقت. فهي ما زالت مستوردة لحوالي 16% من بن البرازيل. 

التحالفات الجديدة هي الأكثر أهمية. فكندا والمكسيك جارتا وشريكتا الولايات المتحدة في الاتفاقية الكندية-المكسيكية-الأمريكية للتجارة الحرة تتقاربان مع تراجع إمكانية الاعتماد على الولايات المتحدة. في الشهر القادم سيزور رئيس وزراء كندا مارك كارني المكسيك حيث من المقرر أن يناقش مرونة سلسلة التوريد والتجارة بين الموانئ والاستثمارات المشتركة في الطاقة والذكاء الاصطناعي. ومع إخضاع الاتفاقية الكندية المكسيكية-الأمريكية للمراجعة في العام القادم يأمل البلدان في إيجاد «رافعة» يستطيعان استخدامها ضد ترامب. 

العديد من بلدان البريكس بما في ذلك البرازيل والصين والهند وروسيا وجنوب إفريقيا كانت هدفًا لغضب ترامب ومؤخرًا لرسومه الجمركية التي فرضها بنسبة 50%على الهند وجنوب إفريقيا. ردا على ذلك أجرى رئيس البرازيل لويس إيناسيو لولا دا سيلفا عدة مكالمات لحشد الحلفاء. وفي يوم 7 أغسطس ناقش مع مودي توثيق العلاقات بما في ذلك روابط المدفوعات الرقمية التي يمكن أن تقلل من هيمنة البنوك الأمريكية. وبعد أربعة أيام لاحقا عقد لولا محادثات مع زعيم الصين شي جينبينج حول تعزيز العلاقات التجارية أعلن بعدها شي أن العلاقات مع البرازيل ستكون» في أفضل أحوالها على مدى التاريخ». في جانب التجارة من الصعب القول إن تكتل البريكس يدين بالفضل لأمريكا. فالولايات المتحدة تشتري فقط سدس السلع الهندية وسُبْع الصادرات البرازيلية. وهذه الأخيرة تراجعت من الربع قبل 20 عاما. 

في الواقع التبادل التجاري بين بلدان البريكس كمجموعة أكبر حاليا من تبادلها مع الولايات المتحدة والفجوة تتسع. فالتكامل فيما بينها يتسارع بعد رسوم ترامب. كما سعت أكثر من 10 بلدان بما في ذلك تايلاند وفيتنام إلى الحصول على وضعية الشريك أو تقدمت بطلب للانضمام إلى البريكس. 

الفائز الأكبر من التحالفات الجديدة ربما الصين. فصادراتها إلى جنوب العالم تضاعفت منذ عام 2015. وهي تبيع لجنوب وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط أكثر من مبيعاتها لأمريكا وأوروبا الغربية. وفي يوليو مع انهيار صادراتها إلى أمريكا سجّل إجمالي صادراتها نموّا بنسبة 7% من مستواه قبل عام. وعززت رسوم ترامب هذه الروابط التجارية. ففي يونيو تعهد شي بإزالة كل الرسوم الجمركية على الواردات الإفريقية تقريبا. وسيحضر اجتماعات قمة مع قادة أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. كما تشرع الصين وبلدان رابطة الآسيان التي تضم ربع سكان العالم وخُمس ناتجه المحلي الإجمالي في ترميم اتفاقية التجارة الحرة بينهما. ومن المقرر المصادقة عليها بنهاية العام. 

في الأثناء تتحسن علاقات بكين مع نيودلهي. وتستكشف الشركات الهندية إقامة مشروعات مشتركة مع نظيراتها الصينية في قطاع السيارات الكهربائية والبطاريات. وفي هذا الشهر من المتوقع أن يزور مودي الصين لأول مرة خلال 7 أعوام. 

ترامب يريد أن تكون أمريكا في مركز تجارة العالم. لكن الأمور لا تجري كما هو مخطط لها.