نظم النادي الثقافي بالتعاون مع مكتبة حبر جلسة حوارية بعنوان "الفلسفة في مواجهة الكراهية" أدارها محمد المحروقي، بحضور جمع من الشباب والمهتمين، في قاعة المزن مول بالموالح. وتناولت مفهوم الكراهية واستخدامها كأداة سياسية، ودور الفلسفة في تفكيك خطاب الكراهية، ومواجهتها بالمواقف الأخلاقية ونشر الوعي الاجتماعي.
وأوضح الدكتور سعود الزدجالي بأن الحديث عن إمكانية الفلسفة في مواجهة الكراهية يطرح إشكالا عميق فالكراهية ليست عرضا طارئا على الإنسان يمكن تجاوزه، بل هي لصيقة بطبيعته الوجودية. مبينا أن الإنسان كائن هش، ضعيف، يعيش في خوف دائم من الآخر، ومن هنا تولد مشاعر النفور والعداء.
ويضيف أن الفلسفة ذاتها لم تكن دائما أداة تحرر أو مواجهة للكراهية، بل انخرط بعض الفلاسفة عبر التاريخ في تبرير أنظمة إيديولوجية غذت خطاب التمييز والإقصاء، وهذا يضع علامة استفهام على قدرة الفلسفة على تقديم حلول نهائية. مؤكدا بأن الكراهية نسبية، تختلف باختلاف الخطابات والمعايير السياسية والأخلاقية والدينية. فهي ليست مفهوما جامدا يمكن ضبطه بقواعد صارمة، بل حالة متحركة، تعكس هشاشة الإنسان وعجزه عن التعايش المطلق، مشيرا إلى أن مواجهة الكراهية بالفلسفة قد تكون ممكنة على نحو جزئي، لكنها تظل عاجزة عن القضاء على أصل المشكلة.
أما مقاربة واقعية لخطاب الكراهية في المجتمعات العربية، فيرى الزدجالي أن المجتمعات العربية تعيش في زمن وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، ما يجعل من الضروري التساؤل: أين نجد خطاب الكراهية؟ ويتابع: في المستوى الشعبي قد تنتشر الخطابات الطائفية والتحريضية والاتهامات المتبادلة بالضلال أو الانحراف، وهنا تكون الكراهية حاضرة بقوة في المجال العام عبر المنابر والوسائط. أما المستوى النخبوي مثل الجامعات والمراكز البحثية، حيث ينشغل النقاش بالمنهج العلمي والفكر النقدي، فتقل فيه نبرة الكراهية المباشرة. مبينا أن الممارسة النقدية وحدها غير كافية لحل المشكلة. وقد تساهم في تقليل حدة الخطاب عبر نشر الوعي، لكنها لا تستطيع القضاء على الكراهية جذريا، لأنها لصيقة بالبنى الاجتماعية والسياسية. واستشهد الزدجالي بمقولة أحد علماء الكلام: استدلالاتك ليست أولى من استدلالات غيرك، للدلالة على أن كل طرف يحاول تبرير موقفه بالمنطق ذاته.
من جهته يذهب الدكتور نور الدين الشابي إلى أن الحديث عن إدخال الفلسفة في المناهج الدراسية لمواجهة الكراهية يظل قاصرا إذا لم يعاد النظر في طبيعة التعليم العربي، فالتعليم كما هو قائم اليوم يقوم على علاقة قهرية بين الأستاذ والطالب: فالأستاذ يلقن، والطالب يتلقى دون مسائلة. وهذا النمط البنكي من التعليم، كما يسميه باولو فريري، يعيد إنتاج الخضوع ولا يفتح مجالا للحوار. مضيفا أن إصلاح التعليم لا يكمن فقط في إضافة مادة الفلسفة إلى المناهج، بل في تحويل التعليم برمته من نظام استيداع إلى فضاء حواري، أي أن يتعلم الطالب التفكير النقدي، والمناقشة، والتساؤل، لا مجرد حفظ ما يملى عليه. ويشبه الشابي النموذج المطلوب بما كان يحدث في اليونان القديمة، حين كان سقراط يسير مع تلامذته في حوار مفتوح، حيث المعرفة تبادلية وليست من قناة واحدة.
ويبين الشابي أن الاستعجال في إدخال الفلسفة كمادة دراسية شكلية، غير مناسب لأن الأولوية هي إصلاح العملية التربوية نفسها بتحرير التعليم من سلطوية الأستاذ، وبناء مناهج تحفز النقد والتمييز بين الصحيح والمغلوط.
ويتابع: عن أي فلسفة نتحدث حين نبحث في مواجهة الكراهية؟ فليست كل الفلسفات تاريخيا وقفت ضدها، بل هناك اتجاهات فلسفية غذت أشكال التمييز والعداء. موضحا أن مقاربة التراث العربي الإسلامي كما نجد عند ابن الزجاجي أو القرطبي، تفهم الكراهية باعتبارها حالة نفسية أو نفورا ذاتيا من شيء أو شخص، أما في الفكر الغربي الحديث والمعاصر، فهي تفهم باعتبارها بنية اجتماعية وسياسية تتغذى من منظومات رمزية وثقافية.
ويشير الشابي أن الكراهية تظهر بقوة حين يختل التوازن في البنى الاجتماعية العرقية، والطائفية، والمذهبية وغيرها، فهي ليست مجرد مشاعر فردية، بل نتاج بنيوي يرسخ الانقسام. أما على مستوى المواجهة، فيؤكد أن القضاء التام على الكراهية مستحيل، لأنها متجذرة في الطبيعة الإنسانية. لكن يمكن محاصرتها والحد من فاعليتها عبر كشف منابع الخطاب الذي يكرسها في الثقافة العربية والإسلامية، سواء أكان دينيا أم سياسيا أم ثقافيا، وهنا تتجلى وظيفة الفلسفة كأداة نقد وتفكيك، أكثر منها أداة إلغاء.
أما غسان علي عثمان فتطرق إلى المستوى الوجودي حيث تفهم الكراهية بوصفها شعورا إنسانيا طبيعيا ينشأ عن الألم والضرر الذي يسببه الآخر، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، والمستوى السياسي حيث تتحول الكراهية إلى أداة سلطوية تستخدم لتعبئة الحشود وتبرير إقصاء المختلف، لتكون صناعة متعمدة من السلطة أو النخب لتأبيد الانقسام، والمستوى الأخلاقي وهو الأخطر، حيث يمكن أن نتحدث عن "كراهية أخلاقية" موجهة ضد أفعال لا إنسانية كالإبادة أو العبودية، محذرا من الانزلاق إلى شيطنة الآخر بوصفه مطلق الشر، لأن ذلك يكرس دائرة الكراهية.
ويرى عثمان أن مواجهة الكراهية ليست ممكنة إلا عبر فعل مزدوج معرفي نقدي يكشف التحيزات ويفضح آليات إنتاج الكراهية، وأخلاقي معياري يقوم على موقف صريح ضد التمييز والإقصاء. وضرب أمثلة معاصرة توضح ذلك، مثل خطاب العداء للاجئين في أوروبا، أو الأحكام المسبقة ضد النساء في مجالات القيادة والعمل، حيث تصبح الفلسفة وسيلة لفحص المسلمات ومساءلة المواقف، لا أداة سحرية للقضاء على الكراهية.
وعن مواجهة الكراهية فيوضح عثمان بأن الشعارات أو الخطابات العاطفية لا تكفي فيها. فعبارات مثل "كلنا إخوة" تبدو جميلة، لكنها عاجزة عن تفكيك الصور النمطية الراسخة في وعي الناس. مؤكدا أن الأرضية الفلسفية الحقيقية ليست مجرد إدانة أخلاقية، بل فعل نقدي متواصل يراجع التصورات المسبقة.
ويشير إلى أن المشكلة تنشأ حين نختزل الآخر في صيغة مثل: "العربي كسول"، و"الغربي متغطرس"، فمثل هذه التعميمات لا تحل شيئا، بل تغذي الإقصاء، لذلك لا بد من مقاربة تنزل الواقع إلى تنوعه وتعقيداته، بحيث ندرك أن ليس كل غربي متعجرف، ولا كل عربي كسول.
ويضيف أن الموقف الفلسفي الأصيل يبدأ من مساءلة الذات: هل نحن حقا أبرياء من الكراهية؟ أم أنها قد تختفي في لغتنا، في صور مهذبة لكنها مشحونة بالرفض؟ ويستحضر مثال اللاجئين في الغرب، حيث قد يقال: "نحن لا نكرههم"، لكن الخطاب العملي يعكس نفورا مبطنا، فلا يجب أن نكتفي بالإدانة الأخلاقية أو الشعارات المثالية، بل نتحول إلى صلب الممارسة، ليعاد النظر في علاقتنا بالآخر.