دماء طاهرة غطت كاميرا التصوير الفوتوغرافي التي كانت تحملها الصحفية الفلسطينية مريم أبو دقة مراسلة وكالة «أسوشيتيد برس» حين كانت هي وبعض زملائها من الصحفيين يحاولون تغطية القصف الإسرائيلي على مستشفى ناصر، لتتحول تلك الكاميرا إلى شاهد على الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وبحق شهود الكلمة ممن يحاولون نقل ما تقوم به الآلة الإسرائيلية من جرائم إبادة جماعية.
كاميرا الصحفية مريم كلفتها حياتها هي وخمسة من زملائها الصحفيين لنقل الحقيقة حين هبوا لتوثيق فضائع الحرب الوحشية الإسرائيلية بقصفها الطابق الرابع من مستشفى ناصر في خان يونس ذلك المكان الذي كان المدنيون الفلسطينيون يعدونه ملاذًا آمنًا يحتمون به من وابل القصف المنهمر عليهم من الأرض والسماء. لكن ما كان يخيل للأبرياء بأنه ملاذ آمن تحول إلى بؤرة للقتل راح ضحيته وفاة عشرين فلسطينيًا بينهم الصحفيون الخمسة ممن كانوا يحاولون نقل الحقيقة المرة. والجرائم البشعة المرتكبة بحق المدنيين العزل في مكان كان يُعتبر بحق الأعراف والمواثيق الدولية أنه مكان لا يجب أن يكون ساحة حرب، وإنما ساحة علاج واستشفاء للمرضى والجرحى.
منظمة «مراسلون بلا حدود» -وهي منظمة دولية غير حكومية وغير ربحية تأسست عام 1985 في فرنسا، وتتمثل مهمتها في الدفاع عن حرية الصحافة، وحرية تداول المعلومات عبر رصد الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون في العالم، وتقديم الدعم القانوني والميداني والإعلامي لهم- أكدت أن إسرائيل تستهدف الصحفيين عمدًا، ودعت مجلس الأمن الدولي إلى عقد جلسة طارئة لوقف تلك المجازر، خصوصًا مع تكرار عمليات الاغتيال التي طالت العاملين في الميدان. وتشير التقارير العالمية إلى أن إسرائيل قتلت أكثر من 145 صحفيًا منذ بدء حربها على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023 بينهم أكثر من 35 كانوا يؤدون تغطيات مباشرة لحظة استهدافهم من قبل قوات الاحتلال.
ماذا فعل العالم وماذا فعلت المنظمات الدولية ووسائل الإعلام الدولية بأكملها إزاء ما يجري من فظائع في غزة؟ لا شيء سوى الأسف والإدانات المتكررة التي قد يكون أكثرها بالتنسيق مع إسرائيل نفسها؛ لإظهار مواقف بعض الدول أمام شعوبها بأنها تقوم بردود فعل كلامية، وأنها لا ترضى عما يجري على أرض الواقع، ولكن ليس بيدها الكثير لتفعله لإيقاف إسرائيل عما ترتكبه من جرائم بحق الإنسانية بأكملها. ذلك الصمت الدولي المطبق الممزوج بخطابات إدانة باهتة لا يُفسَّر إلا باعتباره ضوءًا أخضر يتيح لإسرائيل أن تواصل حربها ضد المدنيين والصحفيين بلا خوف من مساءلة أو عقاب؛ فالمؤسسات الأممية التي يُفترض أن تكون حصن العدالة، وحامية المواثيق الدولية تحولت إلى متفرج عاجز. أما الدول الكبرى التي تمتلك قرار الحرب والسلم فقد آثرت الانحياز لإسرائيل بالصمت المطبق، أو بدعم عسكري وسياسي مكشوف بينما تُترَك دماء الصحفيين تسيل على الأرض بلا ثمن.
كاميرا الصحفية مريم أبو دقة -وقبلها عدسات المصورين وميكروفونات المراسلين الذين اغتالتهم إسرائيل في سعيها المحموم لإسكات صوت الحقيقة- لن تتوقف عن الدوران، ولن يُوقفها رصاص ولا قصف؛ فالكلمة حين تُكتب بدماء أصحابها تتحول إلى شهادة خالدة لا يطالها النسيان، والصورة حين تُلتقط في لحظة الخطر تصبح أقوى من كل آلة حرب، وإن حاولت إسرائيل إطفاء نور الحقيقة فإنه سيظل وقّادًا متوهجًا. وسيأتي جيل من الصحفيين والمدونين والناس البسطاء ممن يحملون الهاتف والكاميرا، ويدونون ما يجري على أرض الواقع لينقلوه إلى العالم أجمع؛ فالحقيقة لم تعد حكرًا على المؤسسات الإعلامية الكبرى، بل أصبحت ملكًا لكل إنسان قادر على أن يلتقط مشهدًا أو يسجل كلمة، فيحوّلها إلى شهادة لا يمكن طمسها.
قد تستطيع الجرافة الإسرائيلية هدم المبنى وقتل الإنسان، لكنها لن تستطيع أن توقف الحقيقة عن التدفق، ولن تستطيع مهما أوتيت من قوة أن تمنع سيل الصور والفيديوهات والتقارير الإخبارية وشهادات الناس على الظلم والجور والجوع والتشرد من أن تصل إلى العالم أجمع، وما لا تدركه إسرائيل حتى اللحظة هو أن معركتها ليست مع من يحمل الكاميرا في ساحة القتال، بل مع ذاكرة الشعوب التي تحفظ، ومع أرشيف ما يُكتب وما يُدوَّن. وسيأتي ذلك اليوم الذي تنشر فيه صحائف الغدر الإسرائيلية لتحاسب على جرائمها التي ترتكبها بحق شعب أعزل. كما يخبرنا التاريخ بأن الشعوب الظالمة الغازية، وإن وصل بها الطغيان في الظلم إلى إبادة الآخر فسيأتي يوم تحاسب فيه حتى من قبل من كان في يوم صديقًا لها عندما تنتهي المصلحة وتذهب الصداقة؛ فدروس التاريخ هي عبر لنا وللآخرين يجب علينا الاستفادة منها.
عبدالله الشعيلي رئيس تحرير جريدة «عُمان أوبزيرفر»